نعي ومناجاة لعبد الله محارب

نعم رحلتَ، ونعم ما رحلتَ!

رحلتَ بجسدك عنا، وما رحلتَ بإنسانيتك فينا.

رحلتَ بجسدك عنا، وما رحلتَ بعلمك  الذي سطَّرته في تحقيقاتك وبحوثك.

رحلتَ بجسدك عنا، وما رحلتَ بأخلاقك وتواضعك وبساطتك وقربك من كل من حولك وما حولك.

بعض الرجال يجلسون على الكراسي، فتبتلَعهم، حتى إنهم لا يعودون يتعرفون على أنفسهم، وبعض الرجال يجلسون لكنهم لا يرون الكراسي، وتظل وجوهُهم وجوهَهم، هي الملامحُ نفسُها لا تتغير.

زرتَ المعهد في مستهل ولايتِك أمر “الألكسو” فالتقيتَ العاملين جميعًا، واستمعت إليهم جميعًا، وزرعت الفرح في قلوبهم جميعا، وعندما ودَّعناك أبيتَ أن نجاوز المكتبَ في توديعك، وقلتَ بين الهزل والجِد، ما يعني أنك أنتَ مديرا، وغير مدير، وأنك لا تُحب أن نخاطبك لا بمعالي ولا بسعادة.

قد تغضب.. بل قد تكون سريع الغضب، نعرف هذا فيك، لكنَّ رضاك أسرع كثيرا من غضبك.

ما كنا نزعل من غضبك؛ لأننا نعلم أن المسافَة بين غضبك ورضاك ضيقةٌ إلى الحد الذي لا يجد فيه الزعلُ مكانًا يستقر فيه.

قد تجرح بنظرة أو بكلمة، بيد أن مداوتك كانت أبدا أقوى وأسرع حتى إنك تُنْسِي الجرح ويعود الصفاء والود أقوى مما كان.

أما الحديث الذي كان بالنسبة لك هو السحر الحلال، فما كان سوى حديث “العلم” و”الكتب” و”المخطوطات” والرجال الذين خدموا العلم والكتب والمخطوطات، وليس أقرب من أن نخرجك من حال سكون أو حزن أو غضب من أن نذكر أمامك عنوان مخطوطة، أو اسم مكتبة، فإذا ما أردنا أن نقلب الحال رأسًا على عقب، فليس أهون من أنْ نستدعي اسم السيد صقر أو أحمد شاكر، أو محمود شاكر، أو عبد السلام هارون، ويبلغ الانسجام ذروته إذا ما عرَّجنا على البحتري وأبي تمام والآمدي والموازنة والوساطة.

إذا رأيت الحق والخير والصواب أسرعت إليه تريده، لا تأبَهُ إلا به، ولذلك فإنكَ كنتَ تضيقُ بالإجراءات والضوابط والقيود واللوائح التي تقيِّد وتعطل، وكثيرًا ما اصطدمتَ بها في بدايات ولايتك، إلى أنْ روَّضتَ نفسك على أن تضعها في الحسبان، لكنْ دون أن تجعلها تتحكَّمُ فيك فتخطئ الحق، أو تنأى عن الخير، أو تخالف الصواب.

حتى الأيام الأخيرة، قُبَيْل رحيلك المفاجئ كان هاجس العلم يسكنك، وكنت تقتنص من الوقت ما استطعت؛ لتخلوَ إلى “الوساطة والآمدي” تحقِّقُ وتضبطُ وتراجع. ونرفع السماعة فنجدك على الجهة الأخرى تقرأ علينا نصا احترتَ فيه، وقلَّبته على وجوهه، فلم يستقم لك. تقول وفي صوتك مَيْعَة العلم وفضول المعرفة: “يا أهل اللغة أرونا كيف نقيم هذا الذي اعوجَّ؟”.  وما كنت خاليا، فقد كانت لديك اقتراحات ناضجة، لكنك تريد أن تستأنس برأي؛ ليطمئن قلبك.

ما كان أهون علينا نحن في المعهد وعلى غيرنا من العاملين في المنظمة، من أن نرفع السماعةَ ونكلمَك، أو نرسلَ إليك على إحدى وسائل التواصل، وما كان أسرع ما ترد بسماحة نفس وسعة صدر.

رحلتَ.. نعم رحلتَ، لكنك ما رحلتَ، لذلك ما استطعنا أن ننعيك بالكلام الرسمي، والديباجة التقليدية التي تقول:

ينعي معهد المخطوطات العربية مديره السابق والمدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الذي غادر دنيانا، صباح الخميس 8 من شعبان/ 4 من مايو 2017. تغمده الله تعالى برحمته، وأحسن عزاء أسرته، وأهله ومحبيه.

انتهت الديباجة الجامدة، لكننا نفضل أن ننهي بما بدأنا به

نعم رحلتَ أبا ناصرٍ، ونعم ما رحلتَ !