معهد المخطوطات العربية.. قراءة في سفر الماضي

معهد المخطوطات العربية.. قراءة في سفر الماضي

كتبه د. فيصل الحفيان

 

تمهيد:

(أ) تراث الأمة أساس نهضتها، تلك هي القاعدة مهما كانت قيمة هذا التراث، فكيف يكون الحال، والتراث هو التراث العربي؛ غنى وتنوُّعًا، وامتدادًا ومساحة جغرافية، وقدرة على التأثير بما يملكه من قيَم روحية ودينية؟

(ب) في بادرة واعيةٍ بأصالة الماضي، واحتياجات الحاضر، وفي لفتة مستشرقة للمستقبل، أصدر مجلس جامعة الدول العربية، في جلسته السابعة من دورته العادية الثالثة، قراره رقم 39، الذي نصّ على إنشاء معهد اسمه: معهد إحياء المخطوطات، مُلحَق بالأمانة العامة للجامعة، وإذا كانت الجامعة العربية قد أنشئت عام 1945، فإن هذا المعهد يُعَد من أقدم “إدارات” الجامعة.

(جـ) وقد نصَّ القرارُ السابق في مادته الثانية على أن تكون مهمة المعهد:

Ÿ جمع فهارس المخطوطات العربية الموجودة في دور الكتب العامة والخاصة، وفهارس المخطوطات التي يمتلكها الأفراد؛ لتَوْحيدها في فهرس عام.

Ÿ تصوير أكبر عدد ممكن من المخطوطات العربية القيِّمة.

Ÿ وضع هذه المصورات تحت تصرُّف العلماء أولاً، بعرضها لمن يطلبها، للاطِّلاع عليها بواسطة الآلات العارضة المكبِّرة، أو بإعطاء صورة مكبرة منها بأسعار مناسبة، أو بإعارة نسخة ثانية منها للعلماء الذين يطلبونها من البلدان الأخرى، عن طريق المؤسسات العلمية، أو بإرسالها رأسًا إليهم بأسعار مناسبة.

Ÿ طبع صور المخطوطات القيِّمة، التي نصها صحيح، وخطها مقروء، ونشر نصوص المخطوطات ذات الأهمية الكبرى.

Ÿ تنظيم التعاون بين العلماء والمؤسسات العلمية في سبيل نشْر المخطوطات، وتزويد الناشرين بالمعلومات اللازمة عن المخطوطات التي يعنون بها، وإعلامهم بأسماء مَن يعنى بمخطوطات مماثلة لمخطوطهم أو مشابهة له.

Ÿ إصدار نشرة دورية عما طُبع أو يُطبع من المخطوطات العربية، والإشارة إلى ما هو معد منها للطبع.

1 – التطور التاريخي:

مرَّ المعهد على مدى نصف قرن تقريبًا بمراحل عدة، ليس بينها حدود فاصلة أو قاطعة تمامًا، ذلك أن نهر العمل كان يجري في مجرى واحد، وعلى الرغم من ذلك، فقد كان لكل مرحلة طابعٌ خاص، ويُمكن إيجاز هذه المراحل على النحو التالي:

الأولى: من الإنشاء (1946) حتى (1954)، وفيها كان المعهد جزءًا من الدائرة الثقافية في الأمانة العامة لجامعة الدول العربية.

الثانية: تبدأ بانفصاله عن الدائرة الثقافية عام (1955)، وتستمر حتى عام (1969)، حيث ألحق بعد تلك السنة بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.

الثالثة: تبدأ منذ عام (1970)، وتستمر حتى عام (1990)، وفيها عمل المعهد في ثلاث عواصم عربية: في القاهرة حتى عام (1979)، وفي تونس حتى أوائل عام (1981)، وفي الكويت حتى عام (1990).

الرابعة: تبدأ مع بداية عام (1991)، وهي مستمرة حتى اليوم، وفيها تركز عمل المعهد في مقره الأول، في العاصمة المصرية.

وفي هذه المراحل جميعًا تحمل مسؤولية كبيرة، كبر الهدف، وثقيلة، ثقل التحديات المصيرية التي حاصرت الأمة، ولا تزال تحاصرها.

ووفقًا لطبيعة الأشياء، فإن عمل المعهد بدأ محدودًا، ثم نما شيئًا فشيئًا، وازداد ثراء وغنى، واشتد عودُه وقوي، حتى وصل إلى ما هو عليه الآن.

(1 – 1) المرحلة الأولى:

النواة (جمع التراث):

(أ) تمتد هذه المرحلة التي كان المعهد فيها جزءًا من الدائرة الثقافية بالجامعة العربية، عقدًا من الزمان تقريبًا (1946 – 1954)، وتركز العمل خلالها على جَمْع التراث المخطوط المبعثر في مناطق شتى، ومكتبات عامة وخاصة، داخل الوطن العربي وخارجه.

(ب) وكانت الوسيلة الأساسية لخدمة هذا الهدف هي البعثات التي أوفدها المعهد إلى أماكن وجود المخطوطات؛ لتقوم بالانتقاء والتصوير.

وقد حققت “البعثات” هدفًا رئيسًا من الأهداف التي نصَّت عليها الفقرة (ب) من قرار إنشاء المعهد، وأسهمت بحظ وافر في جمع “النواة” التي لا غنى عنها في تحقيق الأهداف الأخرى، من فهرسة وتحقيق ونشر للنصوص الجيدة، وغير ذلك.

هذه “النواة” كانتْ ولا تزال أعظم الأهداف التي أُنشِئ المعهد مِنْ أجْلِها.

(1 – 2) المرحلة الثانية:

المعالم (خطوط العمل):

(أ) هذه المرحلة تبدأ مع عام 1955، الذي انفصل المعهدُ فيه عن الدائرة الثقافية، وعين له مجلس أعلى من كبار العلماء في العالم العربي، انتخب د. طه حسين رئيسًا له.

وهي متَّصلة اتِّصالاً وثيقًا بالمرحلة السابقة، إذ تُعَدُّ امتدادًا لها في التركيز على جمع التراث المخطوط، لكنها شهدت إرهاصات، واتضحتْ فيها خطوط العمل المستقبلية.

(ب) إن ما جمعه المعهد من التراث المخطوط لا يكاد يُذكَر، إذا ما قورن بما هو موجود في مكتبات العالم؛ ولذلك فقد رنا بنظره مع مطلع هذه المرحلة إلى مناطق غنية بالتراث العربي، في إفريقيا وأوروبا، كما استأنف إرسال بعثاته لداخل دولة المقر (مصر)، وانضمتْ إلى خزانته مجموعة جديدة، عن طريق الاتصالات، مع أصدقائه في البلاد الأوروبية والشرقية.

(ج) وبدأ معلم أو خط جديد، تَمَثَّل في إصدار فهارس للمخطوطات التي تضمها خزانة المعهد، إلى جانب إعداد قوائم بما صورته البعثات الداخلية والخارجية.

(د) كما طلع فجر مجموعة من المطبوعات القيِّمة، من أمهات كُتُب التراث، التي كانت مخطوطات، لا تصل إليها الأيدي، ولا تفيد منها، فتحولتْ إلى مراجع مبذولة للجميع، ويلاحظ أن معظمها في أجزاء عديدة؛ ولذلك فإن أكثرها لم يصدر مرة واحدة، بل إن بعضها لم يكتمل حتى الآن.

(هـ)ومن هذا المعلم تفرع معلم آخر، فصدر عام 1955 العدد الأول من “مجلة المعهد”، وهي مجلة نصف سنوية محكمة، ورتبت على ثلاثة أقسام: الأول لشؤون المخطوطات العربية في العالم، والثاني: للتعريف بالمخطوطات، والثالث: لنشاط المعهد.

(و) وفي هذه المرحلة انتشر خبر المعهد، وطار صيته في الدوائر الثقافية، في الشرق والغرب، وعرفه الباحثون والدارسون، كما عرفتْه الجامعات والمؤسَّسات المعنية بالتراث العربي، داخل الوطن وخارجه.

لكن الوقت لَم يكن قد حان بعدُ لكي يسلك هذا التعاون، ويفاد من هذه الشهرة عربيًّا، في شكْل اتفاقات تُعقد، وهيئات تكون، وهو ما سوف تشْهده المرحلة التالية.

(ز) ومما يؤسَف له أن الجزء الأخير من هذه المرحلة، قد شهد لونًا مِن ألوان الركود، فقد توقَّف إرسال البعثات، وانحسر بعضُ إشعاع المعهد، وتعطلت المجلة عن الصدور.

لكن ذلك لم يستمر طويلاً، فقد استؤنف إرسال البعثات في أواخر عام 1969، وأرسل خبير لاستطلاع أوضاع المخطوطات في إسبانيا والبرتغال، ثم قامتْ بعثة عام 1970 إلى تركيا.

(1 – 3) المرحلة الثالثة:

العطاء (بذور التنسيق القومي):

(أ) عمر هذه المرحلة عقدان (1970 – 1990)، ومارس المعهد فيها عمله من ثلاث عواصم عربية: القاهرة، ثم تونس، فالكويت، والحد الفاصل الذي بدأت منه هو ذلك القرار الذي صدر بفصل المعهد عن الأمانة العامة للجامعة العربية، وإلحاقه بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1970.

(ب) وأهم ما يُميز هذه المرحلة الاتجاه بقوة إلى التعاوُن والتنسيق القَوْمي من خلال اللقاءات، والتشْريعات، والاتِّفاقات، والتقديم للدعم المادي والعلمي، والدورات التدريبية، والحلقات الدراسية، والندوات، والنشر المشترك، والتبادُل في ميداني المخطوطات والمطبوعات.

(ج) ولم يؤثر هذا الاتجاه على نشاطات المعهد الأخرى، فقد استمرت البعثات، كما توالى إصدار المطبوعات؛ بل إن هذه المرحلة شهدت ولادة نشرة (أخبار التراث العربي) التي قامت فيما بعد بدَوْر كبير في تنسيق الجهود القائمة حول تحقيق التُّراث ونَشْره.

(د) لكن العمل توقَّف – أو كاد – خلال الفترة التي كان المعهد فيها في تونس، وذلك لأسباب عديدة؛ منها: أنه ترك في القاهرة كل رصيده من المخطوطات، وكل أوراقه ووثائقه التي تعينه على الاتصال والعمل، وعلى الرغم من ذلك، فقد نظم – وهو في تونس – حلقة في بغداد، حول أُسُس تحقيق التراث ومناهجه، وحاول محاولات أخرى، تمثلت في البدْء بإعداد فهرس لدار الكتب الوطنية بتونس، وتجهيز مادة لإصدار المجلَّة، وإعداد برنامج لاستخدام الكمبيوتر في حفظ فهارس المخطوطات، وآخر لإيفاد بعثة تصوير إلى الباكستان والهند، لكن هذه المحاولات لم يقدَّرْ لها أن تكتمِل.

ومهما يكن، فإن عُمر هذه الفترة كان قصيرًا جدًّا، ويُمكن عدها مرحلة “انتقالية” لا أكثر.

(هـ) في الكويت بدأ المعهد من الصفر، وَوُضِع له نظامٌ أساسي جديد، حدد أهدافه في خمسة عناصر: تصوير المخطوطات، وفهرسة التراث وتيسير الانتفاع به، وصيانة التراث والحفاظ عليه، وخدمة حركة التحقيق والبحث العلمي، والتعاوُن مع مؤسَّسات التُّراث.

كما شكل له مجلس استشاري، ضَمَّ نُخبة من كبار العلماء والخبراء في التُّراث العربي، وأسندتْ إليه مهمة وضْع خطط المعهد، ومراجعتها، ومتابَعة تنْفيذها.

(و) وقد استطاع المعهد خلال فترة وجيزة أن يُكَوِّنَ رصيدًا مناسبًا من المخطوطات، ويبني نواة لا بأس بها لمكتبة حفلتْ بعد ذلك بفهارس المخطوطات والمصادر الأساسية المعينة في العمل، كما تمكن من إقامة علاقات وثيقة مع مؤسسات التراث في البلاد العربية بعامة، وفي الكويت بخاصة.

وقطف – وهو في الكويت – ثمار جهد، بذل على مدى المرحلتين السابقتين، في ميدان التعاون والتنسيق القومي، فأقرت البلاد العربية الصيغة النهائية لـ”القانون النموذجي لحماية المخطوطات العربية”، وشكل “الهيئة العربية المشتركة لخدمة التراث”، ونشر بالتعاوُن مع معهد التراث العلمي العربي التابع لجامعة حلب (سورية) مجموعة نافعة من أمهات كُتُب التُّراث العلمي العربي، وأرسل بعثات تصوير عديدة إلى بلدان عربية وأجنبية، ووضع بذرة عدد من المشروعات المهمة، مثل: “المعجم الشامل للتراث العربي المطبوع”.

(ز) في أواخر هذه المرحلة عادت جمهورية مصر العربية إلى المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وأصبح لدى المنظمة معهدان للمخطوطات: أحدهما في القاهرة، والآخر في الكويت، فأثيرت قضية دمج المعهدين، مما أسفر عن قرار أصدره المؤتمر العام للمنظمة في دورته العاشرة، نص على ضرورة وضع خطة مُحكَمة لتطوير عمل المعهدين، وتحقيق أهدافهما، والإفادة من إمكاناتهما ومقتنياتهما المادية والفنية والتقنية، كما حثَّ على إعطاء الأسبقية للحفاظ على ذخيرة المعهدين من المخطوطات، وأقرَّ مشروعًا مُهمًّا، يتمثَّل في تجديد مصورات المعهد بالقاهرة، ذلك أنه قد مضى عليها عقود طويلة، مما يُهَدِّدها ويعرضها للتلَف، وخصصت للصرف على هذا المشروع (80) ألف دولار من ميزانية المعهد بالكويت.

(ح) في أغسطس 1990 وقعت أحداث الخليج، ونقلت ثروة المعهد في الكويت من المخطوطات والكتب والأجهزة، إلى جهاز الموسوعة العربية التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في بغداد، وتوقف عمل المعهد هناك.

(1 – 4) المرحلة الرابعة:

إرهاصات المستقبل:

(أ) ولم ينْتَهِ العام (1990) حتى استأنف المعهدُ عملَهُ في القاهرة، وكلف بتنفيذ مشروعاته بالكويت.

(ب) في نهاية عام 1991 أصدر المجلس التنفيذي للمنظمة قرارًا يقضي بتوحيد جهود معهدي المخطوطات في الكويت والقاهرة، وقد نصَّ القرارُ على الإفادة من إمكانات المعهدين، ومتابعة الاتصالات لاستكمال استعادة لمحتويات المعهد بالكويت وإعادتها إليه.

وقد عمل المعهد في القاهرة على تنفيذ القرار، لكن التركيز كان على تنفيذ الشق الخاص به في القاهرة؛ ذلك أن الشق الخاص بالمعهد بالكويت، والشق الثالث المتعلق بالمعهدين معًا، لم يمكن تنفيذهما لسببٍ جوهري هو: أن مقتنيات المعهد بالكويت ليست تحت يديه.

(ج) إن الجهد الذي بذل في القاهرة، أدَّى إلى تطويرٍ كبيرٍ في عمله، فعادت الحياة إلى أرجائه، ورجع كما كان مقصدًا للعلماء والباحثين وطلبة الدراسات العليا، سواء منهم المصريون، أو القادمون من البلاد العربية وغيرها، كما التحمت العُرى من جديد مع الجامعات ومراكز البحث التراثي العربية.

من ناحية أخرى وُضِعتْ خُطة محكمة لإنقاذ ما هو معرَّض للتلَف من ذخيرة المعهد من المخطوطات من ناحية، وتجديد ما أصبحت الحاجة مُلحة لتجديده، قبل أن يصل إلى مرحلةٍ يحتاج فيها إلى إنقاذ من ناحية أخرى.

(د) وقد استمرتْ في هذه المرحلة نشاطات المعهد، وحظيتْ بدفعات قوية، تمثَّلتْ في تحقيق الكثير في ميدان الفهرسة، ونشْر كُتُب التراث، وانتظام صدور الدوريات (المجلة، النشرة)، كما شهدت المجلة تطويرًا ملموسًا، تجلَّى في طريقة إخْراجها، وإضافة أبواب جديدة إليها، حتى أصبح عدد الأبواب سبعة بعد أن كان ثلاثة، وركزت المجلة في هذه المرحلة على بابٍ عظيم النفْع، هو نشْر فهارس لكُتُب التُّراث المطبوعة بدون فهارس، ولقي ذلك قبولاً كبيرًا من الجِهات المعنيَّة ومن العلماء والباحثين، على حدٍّ سواء.

2 – القضايا الأساسية.

(2 – 1) قضية الإنقاذ:

(أ) أصابت التراث العربي مِحَن قاسية، لعل أهمها تلك الغربة المزدوجة التي عانى ولا يزال يعاني منها، فقد تعرض للسرقة والنهب وعمليات الاتجار غير المشروعة، وهكذا أصبح معظمه خارج الوطن العربي، كما أنه لم يجد العناية والحماية بين أهله، وألقي في كثير من الأحيان في أماكن لا تتوفر فيها الظروف الملائمة ليستمر حيًّا.

ولم يكن ممكنًا إعادة المخطوطات من غربتها، كما لم يكن ممكنًا إصلاح أوضاع المخطوطات في أماكنها، وخاصة أن جزءًا كبيرًا منها في حوزة أشخاص أو أُسر، تعتز بها بوصْفها جزءًا من “الماضي”، وتضعها في صناديق أو أكياس، دون أن تدركَ خُطُورة ذلك، أو تفكِّر في العلم الذي تُهدده الأرضة، وتأكله الحشرات، ولذلك فإن المعهد لجأ إلى جمع مصورات لهذه المخطوطات من خلال عدة قنوات.

(ب) بعثات التَّصْوير:

لقد جابت البعثات التي أوفدها المعهد منذ أُنشئ الأرضَ، حاملة مُعداتها، وكانت الحركة من البداية داخل دائرتين واسعتين:

Ÿ دائرة العالم العربي.

Ÿ دائرة العالم الخارجي.

وداخل الدائرتين لم تقتصر الحركة على المكتبات الرسمية، بل تعدتْها إلى المكتبات الخاصة التي يملكها أسر أو أفراد.

داخل الدائرة الأولى – الدائرة العربية – شهد عام 1947 البدْء في تصوير مخطوطات العاصمة المصرية، فقد صورتْ مخطوطات من دار الكتب المصرية، والمكتبة التيمورية، ومكتبة طلعت، ومكتبة حليم، ومكتبة الجامع الأزهر، وفي العام التالي 1948 وجه المعهد نظره إلى البلدان المصرية الأخرى، فأرسل بعثتين: الأولى: إلى الإسكندرية، وصورت من: مكتبة بلدية الإسكندرية، ومكتبة جامع الشيخ (خاصة)، والثانية: إلى سوهاج، وصورت من مكتبة المجلس البلدي التي تضم بقايا كُتُب رفاعة الطهطاوي، ومكتبة جمال الدين بدر ببلصفورة (خاصة)، وتلَتْ هذه بعثات أخرى، صورتْ من مكتبات الجامع الأحمدي بطنطا، والبلدية بالمنصورة، والمعهد الديني بدمياط، وكلُّها غير مُفَهْرَسة.

وفي الكويت – البلد المضيفة خلال الثمانينيات – صور المعهدُ أكثر من ثلاثة آلاف مخطوطة تحتفظ بها جامعة الكويت، وهي من مصوراتها من مكتبة جامعة تشستربتي بدبلن (إيرلندة).

وعندما عاد المعهد إلى القاهرة في أوائل التسعينيات استأنف نشاطه في مجال التصوير، لكن ذلك اقتصر حتى الآن على المخطوطات الموجودة داخل مصر، وذلك بسبب بعض العقبات التي يُرجى تجاوزها لاستئناف نشاط التصوير الخارجي.

وامتدادًا للدائرة الأولى شهد عام 1947 أيضًا أول بعثة تحط رحالها في سورية، وقد صورت البعثة من المكتبة الظاهرية (دمشق)، ومن كل من المكتبة الأحمدية، ومكتبة الشيخ ناجي الكردي قيم الجامع الأموي، ومكتبة الأستاذ زين العابدين، والمكتبات الثلاث في مدينة حلب، والأخيرتان خاصتان غير مفهرستين.

وفي عام 1953 قامتْ بعثة لتصوير مخطوطات القدس الشريف، فصورت مخطوطات كثيرة من مكتبات رسمية وخاصة، بلغ عددها عشر مكتبات، وكلها غير مفهرسة، وانتقلت البعثة نفسها إلى بيروت، فصورتْ من مكتبة الجامعة الأمريكية، ومكتبة نور الدين بيهم.

وفي أواخر عام 1954 قصدتْ بعثة أخرى المملكة العربية السعودية، وصورت من مكتبة محمد نصيف بجدة، ومكتبة الحرم المكي الشريف، ومكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت بالمدينة المنورة.

وفي عام 1956 أرسل المعهد بعثة إلى تونس، صورت من خمس مكتبات هناك، ثم قامتْ بعثة إلى المغرب، وتوقفتْ بعد ذلك عشر سنوات تقريبًا.

وفي عام 1972 قامتْ بعثة إلى المغرب، وليبيا (72 أيضًا)، والسعودية (73)، وشمال اليمن في ذلك الوقت (74)، والمغرب (75)، وجنوب اليمن في ذلك الوقت (76).

وفي الكويت انطلقت البعثات تترى، فعلى الصعيد العربي قصدت بعثة في عام 83 اليمن الجنوبي، وفي عام 84 اليمن الشمالي، وفي عام 86 سورية.

على الصعيد الخارجي – غير العربي – قامتْ بعثات توجهتْ إحداها إلى تُركيا، وصورتْ من مكتبات كثيرة حوالي ثلاثة آلاف مخطوطة، وتوجهت الثانية إلى الهند، ومكثتْ هناك ستة شهور، انتقتْ خلالها وصورتْ عددًا كبيرًا منَ المخطوطات المحفوظة في 32 مكتبة بمدن بتنه وحيدر آباد وكلكتا ومدراس ولكهنو ورامبور وعليكره، وغيرها.

وفي عام 1960 قامتْ بعثة إلى إيران، وأخرى إلى تركيا (1970)، وإسبانيا (71)، وإيران (73)، وروسيا (77).

وفي الكويت قصدت بعثة في عام 88 إيطاليا، لتصور من مكتبة الأمبروزيانا بميلانو، وأعقبها في عام 89 بعثة إلى يوغسلافيا، لتصور من مكتبة غازي خسرو بك بسراييفو.

وقد كانت حصيلة هذه البعثات الكثيرة خيرًا وفيرًا، فقد تجاوزتْ ثروة المعهد في القاهرة من المخطوطات ثلاثين ألفًا، وقاربت ثروة المعهد في الكويت عشرة آلاف مخطوطة.

(ج) الاتصالات:

وفي الوقت الذي كانت البعثات فيه تقوم بما لها، كانت الاتصالات مع أصدقاء المعهد خارج الوطن العربي قائمة، وبفضل هذا السعي انضمت إلى خزانته – وهو في القاهرة – مجموعات جديدة من المخطوطات، من مكتبات في إيران وفرنسا وهولندا وإنجلترا وإسبانيا.

كما انضمت مجموعات أخرى – وهو في الكويت – من المكتبات السعودية، ومن مكتبة معهد التراث العلمي العربي بجامعة حلب (سورية)، ومكتبة جامعة برنستون في الولايات المتحدة… إلخ.

(د) الترميم:

كان ذلك كله جانبًا من جوانب الإنقاذ، لكنَّه لم يكنْ كافيًا؛ إذ لا بد من سُرعة إنقاذ بعض المخطوطات، وهي في أماكنها، وذلك من خلال خبراء متخصصين في الترميم، فقد تدهورتْ أحوال بعض المكتبات إلى درجة يستحيل معها إتمام عمليات تصويرها، قبل أن ترمم.

والحق أنَّ هذا الجانب الجديد لم يأخذْ طريقه إلى التنفيذ إلا في المرحلة الرابعة؛ إذ أقر ضمن مشروعات المعهد لعام 95 – 1996 مشروعٌ اسمه: “إنقاذ المكتبات العربية المعرضة للتلف”، ومن المقرر أن يشرع في تنفيذه قريبًا.

(هـ) إعداد الأجيال:

إنَّ ترْميم المخْطوطات أصبح علمًا، تستخدم فيه أجهزة، ويأتي كل يوم فيه بجديد؛ ولذلك كان لا بد من إعداد أجيال فنيَّة متَخصِّصة قادرة على صيانة التُّراث وحمايته، وقد نظم المعهد دورات، بدْءًا من عام 1971، لكنها لم تعرض لقضية صيانة المخطوطات وترميمها بجدية، وفي مرحلةٍ لاحقة (الثمانينيات) نضجت الفكرةُ، وكتب المعهد إلى عددٍ من المراكز التدريبية المتخصِّصة في بلاد أجنبية متَقدمة في هذا الميدان، وكذلك إلى بلاد عربية، كما استقدم – وهو في الكويت – خبيرة عربية، تشاوَر معها حول أفضل السبُل لتكوين كفاءات عربيَّة جيدة، وألقتْ هذه الخبيرة محاضَرة عن مُعالجة وصيانة ورق المخْطُوطات.

وتبنَّى المعهد – وهو في الكويت – مشروعًا لدورة تدريبية، لكنه لم ينجحْ في تنفيذها، بسبب عدم تعاوُن الجهات المعنية في ترْشيح المتدرِّبين، وأيضًا عدم استجابة المراكز المتخصِّصة في تنفيذ الدَّوْرة.

وفي القاهرة – بعد عودة المعهد إليها – تبنى دورة مماثلة، وهو بسبيل تنفيذها قريبًا، بعد أن تعثر التنفيذ، لاعتبارات تتعلق بالمراكز المتخصصة في التنفيذ.

(2 – 3) قضية التعريف:

(أ) التراث العربي رُكام، بعضه فوق بعض، والتعريف به لم يحظَ بالاهتمام الذي يدفع به بؤرة الضوء، وقد تنبَّه المعهدُ لهذه القضية مبكرًا، فنص في نظامه الأساسي الأول الذي أقر في القاهرة، في الفقرة (أ) من مادته الثانية على: “جمع فهارس المخطوطات العربية الموجودة في دور الكُتُب العامة والخاصة، وفهارس المخطوطات التي يمتلكها الأفراد، لتوحيدها في فهرس عام”.

وكان هذا هدفًا صعب المنال، فالفهارس كثيرة جدًّا، وفي كل يوم يطالعنا منها جديد، ولهذا فإنه لم يتحقق إلا في الثمانينيات، فقد أصدر المعهد في الكويت فهرسًا كبيرًا في جزأين، تحت عنوان “فهارس المخطوطات العربية في العالم” يُعد الآن مرْجعًا في بابه.

(ب) تلك كانتْ خطوة عامة، رافقتها خطوات تفصيليَّة، تشعبت في أكثر من اتجاه، فقد بدأ المعهد في القاهرة بإصدار فهارس تحليلية لمصوراته، استهلها بفهرس عام مصنف على العلوم، صدر عام 1954 وأتبعه فهارس خاصة بعلوم مختلفة: التاريخ، والطب، والعلوم، والكيمياء، والتاريخ، والمعارف العامة، وفي الكويت أصدر فهارس أيضًا لمصوراته في علوم الفقه، والأدب، والتاريخ، وبعد عودته إلى القاهرة أصدر جزءًا مكمِّلاً لفهارس “الأدب” التي أصدرها قبل انتقاله إلى الكويت، ويعمل حاليًّا في إعداد جزءٍ جديد لمخطوطات الأدب أيضًا.

(ج) ولم يقتصرْ جُهد المعهد على فهرسة مخطوطاته؛ بل تبنَّى إلى جانب ذلك فهرسة وطبع ونشر مخطوطات مكتبات في البلاد العربية، وقد امتدَّ هذا النشاط ليشمل عددًا من هذه البلاد في شرقي الوطن وغربيه، فصدرتْ فهارس لمكتبات عامة وخاصة، ومن هذه الفهارس: فهرس الخزانة الصبيحية بسلا – المغرب، وفهرس مخطوطات مكتبة السيد محمد باقر الطبطبائي في كربلاء – العراق، وفهرس مجاميع المدرسة العمرية في دار الكتب الظاهرية – دمشق… وكان آخر ما صدر “فهرس مخطوطات مكتبة جامعة الإسكندرية” الذي صدر عن المعهد في القاهرة بعد استئنافه عمله فيها.

ويشرع المعهد حاليًّا في اتخاذ إجراءات طباعة فهرس للمخطوطات العلمية في دار الكتب الوطنية بتونس، وذلك بالتعاون مع “بيت الحكمة” إحدى المؤسسات العلمية في الجمهورية التونسية.

(د) وتجاوز المعهد البلاد العربية، وطمح بعينيه إلى الخارج، فالتراث العربي – أينما كان – هويته واحدة، وقد نشر المعهد في هذا الإطار “فهرس المخطوطات العربية في المكتبة الوطنية بجامعة ستراسبورغ – فرنسا” و”مجموعات مخطوطة في مكتبات إستانبول” وقبلها “فهرس المخطوطات العربية في مكتبة الأمبروزيانا في ميلانو – إيطاليا”.

(هـ) ولا يغيب عن البال تلك المهمات العلمية التي قام بها خبراء المعهد إلى مواطن المخطوطات؛ للكشْف عن أوضاعها وكتابة تقارير عنها، ومن ذلك التقارير التي نشرها عن المخطوطات العربية في الهند، ويوغسلافيا، ونيجريا.

(و) كما لا يغيب الدور الكبير الذي قامت به مجلة المعهد في خدمة قضية التعريف، فقد تضمنتْ مُجلداتها ثروة من الفهارس التي تلقي الضوء على ما تحتويه مكتبات المخطوطات العامة والخاصة، داخل الوطن العربي وخارجه.

(2 – 3) قضية الإحياء:

(أ) إحياء التراث في نشره، وقد نص النظام الأول الذي وضع للمعهد في القاهرة، في فقرته (د) من المادة الثانية، على أن يقوم بـ”طبع صور المخطوطات القيمة، التي نصها صحيح، وخطها مقروء، ونشر نصوص المخطوطات ذات الأهمية الكبرى”.

(ب) ولما كانتْ طرائق التحقيق مختلفة بين البلاد العربية من ناحية، والبلاد العربية والأوساط الاستشراقية من ناحية أخرى، فإنَّ المعهد وضَع في وقت مبكر طريقة موحدة، لقيتْ قبولاً كبيرًا لدى الجانبين.

وفي وقتٍ لاحق (مايو 1980) عقد حلقة في بغداد، دعا إليها مجموعة من الأساتذة المشهود لهم بطول الباع في الميدان، خلصوا إلى أُسُس عامة لتحقيق التُّراث ومناهِجه، نشرتْ بعد ذلك ضمن كُتيب صغير، صدر عن المعهد في الكويت.

(ج) وقد نهد المعهد – منذ أنشئ – للمهام الجسام، فاختار تلك المخطوطات الكبيرة ذات الأجزاء التي لا يطيق الأفراد النهوض بها، سواء من الناحية العلمية، أو المادية، كما لا تقبل عليها دور النشر، لقلة جدْواها تجاريًّا.

(د) التراث العربي غنيٌّ كمًّا ونوعًا، ولذلك فإن المسؤولية كبيرة، تفرض أن تظل العين على هذا التراث بمختلف صنوف المعرفة التي تناولها، فلا يطغى صنفٌ على صنف، ولا يهمل منه علم، فيظل في منطقة النِّسيان.

واعتمادًا على ذلك ضمتْ قائمة منشورات المعهد كتبًا، مثل: “سير أعلام النبلاء”، و”ذيل الدرر الكامنة (في التراجم)، وشرح السير الكبير (في الحقوق الدولية)، والمحكم، ومجمل اللغة (معجمات)، وديوان الألغاز للمعري، ودواوين المثقب العبدي والمتلمس الضبعي وعمرو ابن قميئة وشعر تغلب في الجاهلية (شعر وأدب)، والتبصرة في القراءات، والموضح في التجويد (علوم قرآن)، والنكت في تفسير سيبويه، وتفسير المسائل المشكلة في أول المقتضب للفارقي (نحو)”… وغير ذلك.

(هـ) ووسط ذلك كله لم يضع التراث العلمي، فقد نشر المعهد كُتُبًا في الطب؛ مثل: “القولنج”، و”المنصوري في الطب”، وهما لأبي بكر الرازي، وثلاثة من كتب ابن سينا صدرت في كتاب واحد تحت عنوان: “من مؤلفات ابن سينا الطبية” وكتبًا في الحساب والرياضة “التكملة في الحساب”؛ للبغدادي، و”نظرية الخطوط المتوازية في المصادر العربية القديمة”، و”وأساس القواعد في أصول الفوائد”؛ لكمال الدين الفارسي… وغير ذلك.

(و) إلى جانب ذلك احتوتْ مجلة المعهد على عددٍ كبيرٍ من الكتب الصغيرة ذات الأهمية، والمحققة وفْق الأُسُس العلميَّة؛ بل إن بعض الكتب الكبيرة نشرتْ أحيانًا بدلاً من بعض أعداد المجلة، مثل: “المرشد أو الفصول مع نصوص طبية مختارة”؛ لأبي بكر الرازي، و”تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن”؛ لأبي الريحان البَيْروني الخوارزمي.

(ز) إن من المِحَن التي تعرض لها تُراثنا، تلك الهوة التي حدثتْ بينه وبين الأجيال الجديدة لأسباب عديدة، ولا شك أنَّ قضية الإحياء لن تخدم بالصورة المثلى ما دامتْ هذه الهوة قائمة.

لهذا سعى المعهد إلى تنظيم دورات تدْريبية لخريجي الجامعات، تهدف إلى تقريبهم من تراثهم، وتَمْرينهم على قراءته وفَهْمه وتوثيقه ودراسته وأصول تحقيقه وفهْرسته، ومن ثم الإفادة منه والبناء عليه، كما هدفتْ هذه الدورات إلى تعويدهم على التعامل مع أنواع الخطوط التي كتب بها، والمراحل التي مرت بها المخطوطة العربية.

وكانت أول دورة في العاصمة المصرية عام 1971، تلتها دورات أخرى في الأعوام 73، 74، 77، في القاهرة أيضًا، ثم عقدت دورة خامسة في عام 80 ببغداد، وسادسة في عام 89 بالكويت، ويجرى التخطيط لعقد دورة سابعة في إحدى بلدان المغرب العربي، لكن أحداث أغسطس 90 حالتْ دون ذلك.

(2-4) قضية التعاون:

(أ)حرص المعهد على الارتباط بعلاقات تعاوُن وثيقة مع مختلف المؤسسات والهيئات والمراكز المعنية بالتراث في البلاد العربية والعالم؛ وذلك تحقيقًا لهدف رئيس، نص عليه نظامه الأساسي الأول في الفقرة (هـ) من مادته الثانية.

وقد بدأتْ خيوط هذا التعاوُن تتشابَك وتتلوَّن حتى شكلتْ شبكةً كبيرةً، لكل خيط من خيوطها لون ووظيفة وهدف.

(ب) أول هذه الخيوط تقديم التمويل المادي والعون العلمي للهيئات التراثية المحتاجة للدعم، ومن ذلك المعونة المادية التي قدمها لهيئة القُدس العلمية لصيانة المخطوطات في مكتبات المدينة المقدسة، وإهداؤه مجموعة من أجهزة التصوير لأحد مراكز البحث العلمي الموريتانية، وصرفه على الندوة العالمية الرابعة لتاريخ العلوم عند العرب، التي نظمها معهد التراث العلمي العربي التابع لجامعة حلب في الجمهورية العربية السورية.

(ج) وثاني هذه الخيوط تبادُل مُصورات المخطوطات والمطبوعات مع المؤسسات الموجودة في الوطن العربي وخارجه، وفي هذا الإطار أعدَّ قائمة طويلة من عناوين هذه المؤسسات يحرص على تزويدها بإصداراته ودورياته، ويتلقى منها ما تصدره، كما أنه تبادل مصورات المخطوطات مع مؤسسات عديدة، مثل: جامعة الكويت، والمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت، وعدد من الجامعات السعودية، ومكتبة الأسد الوطنية، ومعهد التراث العلمي العربي (سورية)، وجامعة يوتا، وجامعة برنستون بأمريكا، وغيرها.

(د) وثالثها النشر المشترك، وفي إطاره نشر المعهد – وهو في الكويت، بالتعاون مع معهد التراث العلمي العربي التابع لجامعة حلب – مجموعة قيمة من كُتُب التراث العلمي.

كما نشر – وهو في القاهرة – بالتعاون مع وزارة الثقافة المصرية، في مرحلة مبكرة، كتاب “مختار الأغاني”.

(2 – 4) قضية التنسيق:

(أ) معهد المخطوطات معهد قومي، يقوم على خدمة تراث غني لأمة عريضة، تمتد على مساحة جغرافية واسعة، والتنسيق الذي يخدم هذا التراث، حفظًا وصيانة، وتحقيقًا ونشرًا، وفهرسة ودراسة – ينبغي أن يكونَ هدَفًا رئيسًا له؛ إذ بدون هذا التنْسيق تضيع الجهود وتتكرَّر، وبدونه يعمل الجميع، مؤسسات وأفرادًا، كلاًّ على حدة، فتغيب أهداف، وتتوه قضايا.

إلا أن هذا الهدف لم ينص عليه صراحة في النظام الأساسي الأول، ربما لأنَّ المعهد لما يكن قد امتلك أدواته بعدُ، كما أن مُعظم البلاد العربية لم يكنْ فيها أيامها مراكز خاصة بالتراث، تعمل على أُسس واضِحة.

(ب) والحق أن قضية التنسيق نمتْ شيئًا فشيئًا، بدأتْ بالتعاون مع المراكز والمؤسسات المعنية – كما سبقت الإشارة في القضية الرابعة – وكان لا بد أن يسلك هذا التعاون في تشريعات وقوانين واتفاقات وتشكيل هيئات تكون نواة لوضع إستراتيجيات عاجلة وآجلة.

(ج) وجاءتْ حلقة حماية المخطوطات العربية وتَيْسير الانتفاع بها التي عقدها المعهد في بغداد عام 1975، لتضع بذرة هامة في ميدان التنسيق، فقد أوصتْ بإعداد مشروع قانون لحماية المخطوطات في البلاد العربية، وتنفيذًا لذلك؛ كوَّنَ المعهد لجنة من المتخصصين في التراث والقانون، وأرسل المشروع إلى الدول العربية في عام 1977.

وعندما انتقل المعهد إلى الكويت نصَّ نظامه الجديد في مادته الثالثة على أن “يعمل على تحقيق مشروع القانون الموحد لحماية المخطوطات العربية”، وظلَّ المشروعُ في بؤرة الاهتمام يخْضع للتَّعْديلات والإضافات التي ترد إليه من الدول العربية حتى أقرَّ الوزراء المسؤولون عن الشؤون الثقافية في الوطن العربي، في مؤتمرهم السادس الذي عقدوه عام 1987، “القانون النموذجي لحماية المخطوطات العربية”.

وكانت هذه ثمرة عظيمة من ثمار الجهود المبذولة في ميدان التنسيق.

(د) والتشريعات وحدها ليستْ كافية، ولذلك فإنَّ المعهد استطاع أن يتوجَ علاقاته الوثيقة مع المؤسّسات التراثية العربية بتشكيل “هيئة عربية مشتركة لخدمة التراث”، ضمتْ أربع عشرة هيئة ومؤسسة عربية متخصصة، عقدتْ أول اجتماعاتها في الكويت، في أواخر عام 1983.

وقد اتخذتْ هذه الهيئة توصيات مُهمة، شددتْ على دور المعهد في وضْع الخطط اللازمة لتصوير المخطوطات وفهرستها والعناية بها، بدْءًا بالتراث المهَدَّد بالتلف والضياع، وخاصة التراث العربي الإسلامي في بيت المقدس وفِلَسْطين، وكذلك على ضرورة تعاوُنها مع المعهد في شتَّى المجالات التي تخدم العمل التراثي.

وكانت هذه “الهيئة” ثمرة عظيمة أخرى.

(هـ) إلا أن الظروف التي مرتْ بها المنظمة في السنين التالية لتشكيل هذه الهيئة، أدتْ إلى تعطيل عقد اجتماع جديد لهذه الهيئة.

(و) وفي القاهرة – بعد أن استأنف المعهد عمله منها – جدَّد المعهد القضية، وتبنَّى مشروعًا لتشكيل هيئة جديدة، وبدأ بالكتابة إلى البلاد العربية في هذا الخصوص، وذلك إدراكًا منه بضَرُورة الاستمرار في اللقاءات بين المسؤولين عن مراكز التُّراث، لتدارس ما جدَّ منذ الاجتماع الأول، ومتابَعة تنْفيذ التَّوْصيات السابقة.

ومنَ المؤمل أن تعقدَ هذه الهيئة اجتماعها الثاني في أواخر عام 1996.

ويذكر أن هذه الهيئة قد نصَّ النظام الأساسي الذي وضع للمعهد عقب انتقاله للكويت على تشكيلها.

(ز) كان ذلك على صعيد التخطيط للعمل القومي في مجمله، ولكن ماذا عن الحركة الداخلية الجزئية في ميدان العمل التراثي الذي يتم داخل المؤسسات العربية، أو يقوم به الباحثون؟ سواء كانوا يعملون بمبادرات ذاتية، أو للحصول على درجات علمية.

هذا ما قامتْ به نشرة (أخبار التراث العربي) التي أصدرها المعهد عام 1971، وقد شهدتْ هذه النشرة تقدُّمًا كبيرًا، وأصبح لها ملامح خاصة ومتميزة بعد انتقال المعهد إلى الكويت، فقد وضعت لها خطة، وانتظمتْ مادتها في أبواب ثابتة، ترصد نشاطات المعهد، والمؤسسات التراثية العربية والباحثين، وطلبة الدراسات العليا، والكتب الصادرة حديثًا. بالإضافة إلى التعقيبات والاستدراكات التي ترد على ما ينشر فيها، حتى غدت قناة رئيسة يحرص كل المشتغلين في ميدان التراث على الاطِّلاع عليها، ويقوم المعهد بتوزيعها مجانًا.

(ح) وفي الاتجاه نفسه تبنَّى المعهدُ مشروعًا لإعداد معجم شامل للتراث العربي المطبوع، وعلى الرغم من أن معجمات قد صدرتْ من قبل بجهود فردية، فإن هذا المعجم يعد أوسع معجم في بابه، يعتمد المنهج التحليلي في مادته.

وقد صدر من هذا المعجم الأجزاء الأول والثاني والثالث والخامس، وتعطل إصدار “الرابع” لأن مادته قد نقلت إلى الموسوعة العربية في بغداد، ضمن ثروة المعهد التي نقلت إلى هناك.

ولهذا المعجم خاصية ليست في غيره، فهو حي متَجَدِّد، يواكب ما تقذفه المطابع كل يوم، من خلال ملاحقه التكميلية، وسوف يصدر الملحق الأول خلال الدورة الحالية (95 – 1996).

الطموح:

والآن وبعد مُضي ما يقرب من نصف قرن على إنشاء معهد المخطوطات العربية، فإن هذا المعهد قد بلغ مرحلة متقدمة من النضج، وفي ظل الرعاية الخاصة التي توليها المنظمة له، فإن خطواته المستقبليَّة أصبحتْ واضحةً ومحسوبةً بدقَّة شديدة.

لقد أعدَّ المعهد تصوُّرًا مستقبليًّا لخطة عمله، ركَّز فيها على ضرورة “توظيف” التكنولوجيا في خدمة التراث، وزيادة عدد بعثات التصوير، وتنمية القدرات العربية من خلال الدورات التدريبية المتخصصة، وتبني جوائز لتشجيع الأجيال الجديدة على العمل التُّراثي، ورسم خطة خاصة بإنقاذ المكتبات العربية المعرضة للتلف، وأيضًا الاستمرار في نشر الكتب التراثية الأصيلة والكبيرة، بالإضافة إلى الاتجاه نحو إصدار سلسلة من الفهارس لكتب التراث المطبوعة بدون فهارس أو بفهارس غير وافية، وذلك في محاولة لحل مشكلة عويصة من مشكلات التراث.

مجلة معهد المخطوطات العربية – المجلد 40 – الجزء الأول – محرم 1417/ مايو 1996