البديعُ في القراءاتِ بينَ تأليفِ ابنِ خَالَوَيهِ وتفريقِ النُّسَّاخِ والمحقِّقين بقلم أحمد فريد

مقالات تراثية [5]
النشر الإلكتروني باعتماد المعهد

البديعُ في القراءاتِ

بينَ تأليفِ ابنِ خَالَوَيهِ وتفريقِ النُّسَّاخِ والمحقِّقين

أحمد محمد فريد

باحث بمرحلة الدكتوراه

بكلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية

 

ألَّفَ الإمامُ اللغويُّ أبو عبدِ اللهِ الحُسَينُ بنُ أحمدَ بنِ خالَوَيهِ (290 – 370 هـ ) كتابَه الـمُسَمَّى بالبديعِ على هيئةٍ لم يُسبَقْ إليها في التصنيفِ في علمِ القراءاتِ، فقد رمَز لكُلِّ واحدٍ من القُرَّاءِ بحرفٍ ولونٍ خاصَّين به طلبًا للاختصارِ، وهو يُعَدُّ بذلك أوَّلَ مَن استخدَمَ الرَّمْزَ في كُتبِ القراءاتِ، قبلَ الشاطبيِّ (ت 590 هـ) في منظومة حِرْزِ الأماني، وابنِ أبي مريمَ (ت 565 هـ) في الموضَحِ في عِلَلِ القراءاتِ.

 

شكل رقم (1): صورة لرموز القراء السبعة من النسخة الخطية للبديع

ع = عاصم، و= أبو عمرو، ث= ابن كثير، ن= نافع، ح= حمزة، ك= الكسائي، ا= ابن عامر

 

وثَمَّ أمرٌ آخرُ لم يُسبَقْ إليه ابنُ خالَوَيهِ أيضًا-ولعلَّه وما تقدَّمَ سببا تسميتِه كتابَه بالبديعِ-وهو أنه جعَلَ القراءاتِ الثمانيةَ (السبعَ المشهورةَ ويعقوبَ) في وسَطِ الصفحاتِ عندَ تأليفِ الكتابِ، وجعَلَ القراءاتِ الشاذَّةَ في حواشيها.

جاءَ في أوَّلِ النسخةِ الخطيَّةِ الفريدةِ من البديعِ: «..باختصارِ قراءاتِ السبعةِ وإضافةِ قراءةِ يعقوبَ إليهم.. وأجعلُ الحروفَ الشاذَّةَ على الحواشي مُخرَّجةً باسمِ واحدٍ فواحدٍ، حتى لا يخفى على الناظرِ في كتابِنا هذا من القراءاتِ شاردُها ومعروفُها» اهـ.

وتحتفظُ مكتبةُ تشستربتي بهذه النسخةِ الفريدةِ من كتابِ البديعِ تحتَ رقمِ (3051)، وهي منسوخةٌ سنةَ (370 هـ) أيْ: في حياةِ ابنِ خالَويهِ، وقد جاءَ الكتابُ بها على الهيئةِ المذكورةِ.

 

شكل رقم (2): أنموذج من النسخة الخطية للبديع

كتبت به القراءات الثماني في وسط الصفحات والشواذ في حواشيها

 

ومعَ مُرورِ الزَّمَنِ عمَدَ بعضُ النُّسَّاخِ إلى تجريدِ ما جاءَ في حواشي كتابِ البديعِ من القراءاتِ الشاذَّةِ في نسخةٍ خاصَّةٍ، وأقدمُ نسخةٍ وقفْتُ عليها لهذا التجريدِ هي نسخةُ المكتبةِ الحميديَّةِ باستانبول رقم (24)، وهي مكتوبةٌ سنةَ 849 هـ، قالَ ناسخُها في آخرِها: «تمَّ الشواذُّ المنقولةُ من البديعِ على حسَبِ الطاقةِ.. مما ألَّفَه الشيخُ الإمامُ أبو عبدِ اللهِ الحسينُ بنُ خالَويهِ رحمَه اللهُ» اهـ، وهي عبارةٌ واضحةٌ في أنَّ ما كتبَه إنما هو منقولٌ من كتابِ البديعِ، لا أنه كتابٌ مستقلٌّ.

وحيثُ إنَّ ابنَ خالَوَيهِ لم يُفرِدْ هذا الجزءَ-فضلًا عن أن يسمِّيَه-فقد لجأَ الناسخُ إلى كتابةِ وصفٍ للكتابِ في صفحةِ العنوانِ حيثُ لم يَجِدْ له عنوانًا، فكَتبَ عليها: كتابٌ مختصَرٌ في شواذِّ القرآنِ العظيمِ.

 

شكل رقم (3): صورة لما كتبه ناسخ الجزء المخطوط بالمكتبة الحميدية بصفحة العنوان

 

ثم جاءَ المستشرقُ الألمانيُّ جوتهلف براجستراشر سنةَ (1933 م) فحقَّقَ هذا النصَّ المختصر، غير أنه حذَفَ من وصفِ الناسخِ السابقِ للمخطوطِ بصفحةِ العُنوانِ كلمةَ «كتاب» واكتفى بما بعدَها، فأثبَتَ على صفحةِ تحقيقِه للنصِّ العنوانَ التالي: مختصَرٌ في شواذِّ القرآنِ من كتابِ البديعِ، ثم طبعَه تلميذُه آرثر جفري على هذه الصورةِ سنةَ (1934 م).

شكل رقم (4): نشرة برجشتراسر

 

 

وواضحٌ أنَّ أصلَ عنوانِ برجستراشر هو وصفُ الناسخِ المشارِ إليه للجزءِ الذي نقلَه الناسخُ المشارُ إليه سابقًا من البديعِ؛ فقد اعتمدَ برجستراشر هذه النسخةَ في طبعتِه، وهو عنوانٌ غيرُ صحيحٍ على أي حالٍ.

وقد جعَلَ هذ العُنوانَ-الذي أخرَجَ براجستراشر المخطوطَ به-بعضَ الباحثين يظنُّ أنَّ ابنَ خالوَيهِ قد اختصرَ هذا الكتابٍ من كتابٍ آخرَ([1])، أو أنَّ كتابَ البديعِ في القراءاتِ الشاذَّةِ فحسبُ([2]).

وثمَّ أمرٌ آخرُ جعَلَ بعضَ الباحثين يذهبُ في موضوعِ كتابِ البديعِ مذهبًا مختلفًا، فيظنُّ أنه في القراءاتِ الثماني فحسبُ([3])، وذلك أنه كُتِبَ بأوراقٍ متقدِّمةٍ على نسخةِ تشستربتي بخطٍّ حديثٍ: «كتابُ البديعِ في القراءاتِ السبعِ، وإضافةِ قراءةٍ ثامنةٍ إليها، هي قراءةُ يعقوبَ» وهو وصفٌ غيرُ صحيحٍ، لا يُعتَدُّ به، سيَّما معَ مخالفتِه لنصِّ الكتابِ نفسِه، وزادَ الأمرَ إشكالًا تحقيقُ الدكتور/ جايد زيدان مخلف الجزءَ الخاصَّ بالقراءاتِ الثماني من الكتابِ وطباعتِه باسمِ كتابِ البديعِ! ([4])

 

شكل رقم (5): صورة لما كتب بخط حديث ببداية النسخة الخطية من أن البديع في القراءات الثماني

 

ولم يكُنْ هذا الغموضُ الغريبُ الذي اكتنَفَ اسمَ الكتابِ وموضوعَه أمرًا متأخِّرًا، بل هو قديم بعض الشيء؛ إذ قالَ الإمامُ ابنَ الجزريِّ (ت 833 هـ) في ترجمتِه لابنِ خالَوَيهِ: «وله تصانيفُ كثيرةٌ، منها البديعُ في القرآنِ الكريمِ، وحواشي البديعِ في القراءاتِ»([5]) ففرَّقَ بينَ البديعِ وحواشيه، وجعَلَ الأوَّلَ في القرآنِ الكريمِ والثانيَ في القراءاتِ! والذي يظهَرُ لي أنَّه لم يطَّلِعْ على البديعِ، والله أعلمُ.

وسببُ كُلِّ هذا الخلطِ في اسمِ كتابِ البديعِ وموضوعِه قديمًا وحديثًا – واللهُ أعلمُ – هو تصرُّفُ بعضِ النُّسَّاخِ في تجريدِ الجزءِ الخاصِّ بالقراءاتِ الشاذَّةِ من الكتابِ، ونسخِه من دونَ سائرِ الكتابِ، ثُمَّ إعطائه اسمًا من عندِ أنفسِهِم!

ويؤيِّدُ أنه ليس ثَمَّ إلا بديعٌ واحدٌ([6]) – هو في القراءاتِ الثماني والشاذَّةِ – أنَّ ابنَ خالويهِ قد أحالَ في كتابِه إعرابِ القراءاتِ السبعِ([7]) إلى كتابِ البديعِ عندَ الكلامِ على القراءاتِ في قولِه تعالى: إِذۡ تَلَقَّوۡنَهُۥ بِأَلۡسِنَتِكُمۡؐ([8]) فقد ذكرَ في إعرابِ القراءاتِ خمسَ قراءاتٍ، ثم قال: «وفيها قراءةٌ سادسةٌ وسابعةٌ وثامنةٌ وتاسعةٌ عدَّدتُها في البديعِ» اهـ.

وبالرجوعِ إلى الجزءِ المطبوعِ باسمِ البديعِ – والمقتصَرِ فيه على القراءاتِ الثماني – لا نجدُ ما أحالَ إليه ابنُ خالوَيهِ، بينما نجده في نسخةِ تشستربتي([9])؛ إذ هي التي اشتملَتْ على نصِّ الكتابِ كاملًا، وكذا نجدُه في الجزءِ الذي انتُزِعَ من هذا النصِّ، والذي طبعَه براجستراشر باسمِ: مختصرٌ في شواذِّ القرآنِ([10]).

والأمرُ كذلك أيضًا نجدُه متكرِّرًا في إحالةِ بعضِ المؤلفين إلى كتابِ البديعِ: كأبي حيانَ في البحرِ المحيطِ([11])، والزَّبيديِّ في تاجِ العروسِ([12])، وغيرِهما.

خلاصةُ القَولِ: أنَّ موضوعَ كتابِ البديعِ هو القراءات الثمانيةُ المشهورةُ والقراءاتُ الشاذةُ معًا، وأنَّ هذه هي الصورة التي ألَّفَ ابنُ خالَوَيهِ الكتابَ وترَكَه عليها، وهي كذلك الصورةُ التي كانَ ينبغي أن يُحقَّقَ عليها الكتابُ كما تقتضيه مبادئُ تحقيقِ النصوصِ، وأنَّه ليس ثمَّ ما يدلُّ على أنَّ لابنِ خالَوَيهِ كتابًا باسمِ: «مختصرٌ في شواذِّ القرآنِ» أو «حواشي البديع».

***

([1]) انظر: العناية بالقرآنِ الكريم وعلومِه من بداية القرنِ الرابعِ الهجريِّ إلى عصرِنا الحاضرِ للدكتور نبيل آل إسماعيل في ص 52.

([2]) انظر: المدخل إلى علوم القرآن الكريم لمحمد فاروق نبهان ص 197.

([3]) انظر: مقدمة تحقيق إعراب القراءات السبع لابن خالويه للدكتور/ عبد الرحمن العثيمين 1/90، والبديع لابن خالويه دراسة وصفية للدكتور محمد فوزان العمر (ص 199) ضمن العدد الثاني من المجلد الخامس والعشرين من مجلة الدراسات الإسلامية بالرياض.

([4]) وهو مطبوع في مركز البحوث والدراسات الإسلامية بديوان الوقف السني سنة 1428 هـ = 2007 م.

([5]) غاية النهاية 1/237.

([6]) وهو ما اقتصر عليه من ترجم لابن خالويه من القدماء أيضًا: كابن العديم في بغية الطلب في تاريخ حلب (5/2433)، وياقوت في معجم الأدباء (3/1036)، والذهبي في تاريخ الإسلام (26/439).

([7]) إعراب القراءات السبع لابن خالويه 2/103.

([8]) النور 15.

([9]) البديع نسخة تشستربتي 62/أ.

([10]) مختصر في شواذ القرآن ص 100.

([11]) البحر المحيط 2/194.

([12]) تاج العروس (ل.د.ن) 36/108.