التمهيد في القراءات للمالكي ما زال مفقودًا بقلم أحمد فريد

النشر الإلكتروني باعتماد المعهد
(تراثنا)

turathuna@malecso.org

مقالات تراثية (8)

التمهيد في القراءات للمالكي ما زال مفقودًا

أحمد محمد فريد

     باحث بمرحلة الدكتوراه

بكلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية

 

بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ

تزخَرُ المصادرُ التاريخيَّةِ-ككُتبِ التراجمِ والفهارسِ وغيرِها-بقدرٍ كبيرٍ من أسماءِ الكُتبِ المصنَّفةِ في شتَّى المعارفِ والفُنونِ، والتي يأسَفُ المرءُ لانقطاِع أخبارِها في عصرِنا الحاضرِ؛ لضياعِ نُسخِها الخطيَّةِ أو تلَفِها، أو غيرِ ذلك مما مُنِيَ به جزءٌ غيرُ قليلٍ من تُراثِنا العربيِّ والإسلاميِّ.

وبينَ حينٍ وآخَرَ تُتناقَلُ أخبارٌ عن العُثورِ على نُسخٍ خطيَّةٍ لبعضِ الكُتبِ التي كادَ الباحثون أن ييأَسوا من الوُقوفِ عليها، ولا سيَّما في هذا العصرِ الذي سهُلَ فيه الاطِّلاعُ على كثيرٍ من مكتباتِ المخطوطاتِ في العالمِ بفضلِ ثَورةِ المعلوماتِ، وهو أمرٌ يبعَثُ على التفاؤُلِ والأملِ في العُثورِ على مصادرَ كادَتْ أن تُنسى.

وما أحسنَ قولَ أبي القاسمِ الشاطبيِّ:

مَا لَا يَفُوتُ فَيُرْجَى طَالَ أَوْ قَصُرَا

ومما تُنوقِلَ مُؤخَّرًا بينَ المشتغلين بالدراساتِ القرآنيَّةِ خبرُ العثورِ على نسخةٍ خطيَّةٍ من كتابِ التمهيدِ لأبي عليٍّ الحسنِ بنِ محمدٍ المالكيِّ (ت 438 هـ)، وأبو عليٍّ المالكيُّ من أئمَّةِ الإقراءِ المعروفِين بالتقدُّمِ في علمِ القراءاتِ، وقد وصفَه شيخُ القراءِ ابنُ الجزريِّ (ت 833 هـ) بـ:الأستاذِ([1])، وهو وصفٌ له دلالةٌ خاصَّةٌ عندَه كما يَعلمَه المتخصِّصون في هذا العلمِ.

وتوجَدُ هذه النسخةُ الخطيَّةُ في مكتبةِ المسجدِ الأقصى المبارَكِ ضمنَ مجموعٍ رقمُه 45، وهي الكتابُ الثالثُ-والأخيرُ-في المجموعِ، وتقعُ في (103) ورقةٍ، من الورقةِ (40) إلى الورقةِ (143)، تليها ورقةٌ واحدةٌ بها بعضُ التعليقاتِ الفقهيَّةِ.

وقد فُهرِسَتْ في المكتبةِ باسم ِاختلافِ القُرَّاءِ السبعةِ([2])، أخذَ المفهرِسُ هذا العنوانَ مما جاءَ في أوَّلِ المخطوطِ من قولِ المؤلِّفِ: «سألتَ وفَّقَنا اللهُ وإيَّاك لما يحب ويرضى أن أذكُرَ لك اختلافَ القُرَّاءِ السبعةِ المشهورين بالأمصارِ..»([3]).

 

 

 

بداية المخطوط

وبمطالعةِ هذه المخطوطِ نجدُ صفحةَ العُنوانِ به خاليةً من اسمَيِ الكتابِ والمؤلِّفِ، ومكتوبًا عليها بلغةِ ظاهرةِ العُجمةِ: «قراءاة متعلق» ممَّا يحتِّمُ في هذه الحالةِ الاعتمادَ على النصِّ وحدَه لإثباتِ نسبتِه للمالكيِّ-أو غيرِه-أو نفيِها، وذلك بعَقْدِ مقارنةٍ بينَ نصِّه ونصٍّ كتابٍ آخرَ صحيحِ النسبةِ للمالكيِّ، وهو هنا كتابُه الروضةُ في القراءاتِ الإحدى عشرةَ؛ إذ لا يُعرَفُ للمالكيِّ تأليفٌ في القراءاتِ غيرَه وغيرَ التمهيدِ.

يقولُ المالكيُّ في مقدِّمةِ الروضةِ: «وأنا بعونِ اللهِ وقدْرَتِه أذكُرُ في كتابي هذا-إن شاءَ اللهُ-جميعَ ما قرأتُه بمدينةِ السلامِ المعروفةِ ببغدادَ والنَّهرَوانِ وتكريتَ وسُرَّ مَن رأى والكوفةِ»([4]) وهذا النصُّ يقتضي أن يكونَ الروضةُ شاملًا لكلِّ ما قرأَ به المالكيُّ من طُرُقٍ عن القراءِ العشَرةِ بهذه البلادِ المذكورةِ، ويمكنُ جعلُه منطلقًا ومعيارًا للتأكُّدِ من نسبةِ المخطوطِ محلِّ البحثِ له، فإن تضمَّنَ كتابُ الروضة جميعَ طُرقِ هذا المخطوطِ-التي عن شيوخٍ هذه البلادِ-عُدَّ هذا مُرجِّحًا لنسبتِه له، وإلا عُدَّ قادحًا فيها.

وبعَقْدِ مقارنةٍ بينَ طُرقِ مؤلِّف المخطوطِ في روايةِ القراءاتِ وطُرُقِ المالكيِّ في الروضةِ يتبيَّنُ ما يلي:

  1. يُسنِدُ مؤلِّفُ المخطوطِ روايةَ الدوريِّ عن حمزةَ([5])، وقراءةَ الكِسائيِّ من روايتَيْ أبي الحارثِ والدُّوريِّ([6]) عن شيخِه أبي القاسمِ عُبَيدِ اللهِ بنِ أحمدَ الصَّيدلانيِّ البغداديِّ (ت 400 هـ)، بينما يُسنِدُها المالكيُّ في الروضةِ عن شيخَيه: الحسنِ بنِ محمدٍ الفحَّامِ وأحمد بن عبد الله السوسنجردي([7]).
  2. يُسنِدُ مؤلِّفُ المخطوطِ روايةَ شُجاعٍ عن أبي عمرٍو من طريقٍ واحدٍ، هو عن شيخِه أبي الحسنِ الحمَّاميِّ([8])، بينما يُسنِدُها المالكيُّ في الروضةِ من طريقَين، كِلاهما عن شيخِه الحسنِ بنِ محمدٍ الفحَّامِ فقط([9]).
  3. يُسنِدُ مؤلِّفُ المخطوطِ روايةَ الدُّوريِّ عن سُلَيمٍ عن حمزةَ من طريقِ واحد أيضًا، هو طريقُ ابنِ فرَحٍ فقط، وذلك عن شيخِه أبي الحسنِ الحمَّاميِّ([10])، بينما يُسنِدُها المالكيُّ في الروضةِ من ثلاثةِ طرقٍ، منها طريقُ ابنِ فرَحٍ، وهذه الطُّرُقُ الثلاثةُ كُلُّها عن الحسنِ بنِ محمدٍ الفحَّامِ فقط([11]).
  4. يُسنِدُ مؤلِّفُ المخطوطِ روايةَ أبي حمدونٍ عن سُلَيمٍ عن حمزةَ عن شيخَين، هما: أبو الحسنِ الحمَّاميُّ وبكرُ بنُ شاذانَ([12])، بينَما يُسنِدُها المالكيُّ في الروضةِ عن شيخٍ واحدٍ، هو أبو الحسنِ الحمَّاميُّ([13]).

فوجودُ طُرقٍ مسنَدةٍ في المخطوطِ عن أحد من أهلِ البلادِ التي ذكرَها المالكيُّ في الروضةِ معَ عدمِ وجودِها في الروضةِ -التي نصَّ المالكيُّ بها أنه ضمَّنَها جميعَ ما قرأَ به بهذه البلادِ- يقدَحُ في كونِ الكتابِ للمالكيِّ، فكيف وقد انضمَّ لذلك وجودُ شيخٍ بغداديٍّ في المخطوطِ ليس في الروضةِ أصلًا، بلا لا تُعْرَفُ للمالكيُّ قراءةٌ عليه([14])، أعني: أبا القاسمِ الصَّيدلانيَّ؟!

ومعَ أنَّ ما تقدَّمَ كافٍ في نفيِ نسبةِ هذا المخطوطِ للمالكيِّ، إلا أنَّ ثمَّ مقارنةً أُخرى تؤكِّدُ هذا الأمرَ، وذلك أنَّ المالكيَّ قد أحالَ في الروضةِ إلى كتابِه التمهيدِ في مواضعَ، منها:

1-قولُه: «وكلُّهم وقَفَ على التاءِ [أيْ: في ﴿ٱللَّٰتَ﴾ بسُورةِ النجمِ] إلَّا الِكسائيِّ، فإنَّه وقَفَ على الهاءِ، وقولُ الجماعةِ أَوْلى من قولِه، وقد ذكَرْتُ علَّةَ ذلك في التمهيدِ»([15]).

غيرَ أنه لم يأتِ ذكرٌ في المخطوطِ لما أحالَ إليه في الروضةِ من ذكرِ العلَّةِ، معَ توفُّرِ الداعي إليه، وهو وجودُ مسألةِ الوقفِ على ﴿ٱللَّٰتَ﴾ به([16]).

2-قوله: «وضمَّ الجيمَ من ﴿جُيُوبِهِنَّ﴾([17])..وكسرَها الباقون.. المشهورُ منهم في التمهيدِ خمسةٌ: ابنُ كثيرٍ وابنُ ذَكْوانَ وحمزةُ والكسائيُّ، ويحيى في روايةِ أبي حَمْدونٍ» ([18]).

وقد جاءَتْ هذه المسألةُ في المخطوطِ في موضعَين:

الأوَّلُ: قولُ المؤلِّفِ: «وضمَّ ﴿عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ﴾ نافعٌ وأبو عمرٍو وهشامٌ وعاصمٌ»([19]).

الثاني: قولُه: «قرأَ ابنُ كثيرٍ وابنُ عامرٍ وحمزةُ والكسائيُّ، ويحيى عن أبي بكرٍ ﴿عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ﴾ بكسرِ الجيمِ، الباقون بضمِّها، وقد ذُكِرَ»([20]).

والنصُّ في هذَين الموضعَين-كما هو واضحٌ-مُخالِفٌ لما هو مُحالٌ إليه في الروضةِ، بل على فرضِ أنَّهما كانا وافقا الإحالةَ فإن اتِّفاقَ كتابَين من كتبِ القراءاتِ في ما كانَ من هذا القبيلِ لا يكفي وحدَه للاستدلالِ على أنَّهما لمؤلِّفٍ واحدٍ؛ إذ هو أمرٌ شائعٌ جدًّا في كُتبِ هذا الفنِّ كما يعلمُ المتخصِّصون.

يبقى سؤالٌ: مَن صاحبُ هذا المخطوطِ إذَنْ؟

الجوابُ على هذا السؤالِ ليس أمرًا سهلًا، إذْ ما يدُلُّ على شخصيةِ المؤلِّفِ في المخطوطِ قليلٌ جدًّا، أقواه شيوخُه في قسمِ الأسانيدِ، ويصعُبُ جدًّا تحديدُ المؤلِّفِ اعتمادًا عليهم؛ إذِ الآخِذون عنهم كثْرةٌ كاثرةٌ، منهم مَن هو معروفٌ ومنهم من لم يُعرَفْ، ومَن يُعرَفون أيضًا منهم من تُنسَبُ له كُتبٌ في القراءاتِ، ومنهم مَن لا تُنسَبُ له، وكلُّ واحدٍ من هؤلاء جميعًا يمكنُ أن يكونَ صاحبَ هذا الكتابِ! وهذا يجعلُ نسبةَ الكتابِ لأيِّهم اعتمادًا على أسانيدِ المؤلِّفِ ضَرْبًا من الظنِّ المحضِ الـمُصادِمِ لمعنى التحقيقِ اللغويِّ والاصطلاحيِّ.

ختامًا: المؤكَّدُ أن نسبةَ هذا المخطوطِ لأبي عليٍّ المالكيِّ لا تصحُّ، فضلًا أن يكونَ هو التمهيدَ له؛ وذلك لِمَا تقدَّمَ ذكرُه من قوادحَ مؤثِّرةٍ في هذه النسبةِ الموهومةِ، أسفَرَتْ عنها مقارنةٌ بينَه وبينَ كتابِ الروضةِ لأبي عليٍّ المالكيِّ، وأنَّ كتابَ التمهيدِ ما زالَ في عِدَادِ المفقودِ، أمَّا هذا المخطوطُ فيظلُّ مجهولَ المؤلِّفِ إلى أن يظهَرَ ما يرجِّحُ نسبتَه لصاحبِه على وفْق أدلَّةٍ يمكِنُ الاعتمادُ عليها والاطمئنانُ لها.

***

([1]) غاية النهاية لابن الجزري 1/230.

([2]) وذُكِرَ أنها مجهولةُ المؤلِّفِ، وأنَّ موضوعَها هو القراءاتُ السبعةُ مضافًا إليها قراءةُ يعقوبَ، انظر: فهرس مخطوطات مكتبة المسجد الأقصى إعداد خضر إبراهيم سلامة (3/1) ط مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن، سنة 1416 هـ = 1996 م.

([3]) المخطوط (الورقة 41 ضمن ترقيم المجموع).

([4]) الروضة لأبي علي المالكي 1/110.

([5]) المخطوط (الورقة 45 ضمن ترقيم المجموع).

([6]) المخطوط (الورقة 45 ضمن ترقيم المجموع).

([7]) الروضة 1/164-165 و1/170 -173.

([8]) المخطوط (الورقة 44 ضمن ترقيم المجموع).

([9]) الروضة 1/156 و1/158.

([10]) المخطوط (الورقة 45 ضمن ترقيم المجموع).

([11]) الروضة 1/164-165.

([12]) المخطوط (الورقة 45 ضمن ترقيم المجموع).

([13]) الروضة 1/166-167.

([14]) غاية النهاية 1/230 و1/485.

([15]) الروضة 2/933.

([16]) المخطوط الورقة 134.

([17]) سورة النور 31.

([18]) الروضة 1/560.

([19]) المخطوط (الورقة 67 ضمن ترقيم المجموع).

([20]) المخطوط (الورقة 112 ضمن ترقيم المجموع).