التعليق على النص بين إبهام وجهل وشُرُود.. كتبه/ يوسف السناري

النشر الإلكتروني باعتماد المعهد

(تراثنا) turathuna@malecso.org

مقالات في التحقيق (2)

التعليق على النص

بين إبهام وجهل وشُرُود

كتبه/ يوسف السناري

 (التعليق) لغة: مصدر علَّق يعلّق تعليقا، وتعديته بحرف الجر (على) تقتضي الظرفية، ومجرورها (الكلام) أو ما تضمن معناه كـ(القول)، و(الحديث)، و(الشعر)، و(النص) وما شابه. فيقال: علَّق على كلام الكاتب أو على قوله، أو علَّق على النص.

وهو بمدلوله العام يكون شفويًّا على كلام مسموع، أو مكتوبًا في حاشية كتاب ما، وقد يكون مصنّفًا مستقلا وهذا ما يقرّبه إلى معنى الشرح، وباعتبار الزمن إما أن يكون تعليقا قديما على نص قديم أو يكون كلام أحد المعاصرين يخدم به نصا قديما. والثاني هو المقصود، وفي هذه الحالة يكون التعليق منسوبا إلى المحقق، والنص منسوبا إلى المؤلف، وعلى ذلك استحقَّ المحقِّقُ أنْ يضع اسمَه بعد اسم الكاتب الأول.

اصطلاحا: كلامٌ يُكتب في حاشية الكتاب؛ لغرض إبانته.

وهذا التعريف يحصر مسمى التعليق في هوامش النص، وبذلك يخرجُ مِن مُسمَّاه علامات الترقيم والرسْم الإملائي الحديث، وتفقير الجُمل، وضبط الألفاظ.

و(النص) إما أن يكون نثرا أو شعرا.

فإن كان نثرا فهو ينقسم إلى مقدّس وغير مقدّس.

والمقدس هو كل ما قاله الله في كتابه وما صح من أحاديث رسوله.

وغير المقدس ما عداهما.

وإن كان شعرا فهو ينقسم إلى محتج به وغير محتج.

والمحتج به ما كان جاهليا وحتى الثلث الأخير من القرن الثاني.

وغير المحتج به ما عداهما، وهو ما أنشد في زمن ظهور اللحن.

شكْل محتوى الحاشية:

نظرا لأن التعليق على النص محله الحاشية فيَجْمُل بي أن أذكر تقسيم المحققين لحاشية النص المحقق من حيث المحتوى الوارد بها، وقد جرت عادتهم على تقسيمها إلى شكلين، كما يلي:

الشكل الأول: يقوم فيه المحقق بمزْج فروقات النسخ الخطية بتعليقاته الشارحة أو المُحِيلة أو الموثقة. بنحو ما كان يفعل الأستاذ محمود شاكر وتلميذه الدكتور الطناحي وأكثر المحققين.

الشكل الثاني: يقوم فيه المحقق بتقسيم حاشية النص إلى قسمين: قسم يدرج فيه فروقات النسخ الخطية، وقسم آخر يدرج فيه تعليقاته على النص، بنحو ما فعل الدكتور المغربي محمد تاويت الطنجي في تحقيقه (المكاثرة عند المذاكرة).

والمحقق ينبغي أن يتخذ شكلا واحدا من الشكلين يتَّبعه من أول الكتاب إلى آخره، ولا يصح له الجمع بينهما في نص واحد، كما لا يصح للشاعر أن يتخذ روِيَّين مختلفين في قصيدة واحدة.

 

-1-

التعليق على المبهم في النص

  • مبهم الأعلام: يدل على العَلَم عدة أشياء: اسم وكنية ولقب ونسبة، ومهنة، وهذه الخمسة قد تدخل طَوْر الإبهام من قبل المؤلف، وفي هذه الحالة ينبغي على المحقق أن يتدخّل قدر ما يستطيع؛ ليصرف هذا الإبهام الوارد في النص إلى صورة التعيين مع القطع أو إلى صورة التعيين مع الظن، أو التوقّف عنهما في حالة إذا لم يبلغ المحقق حالة القطع أو الظن، وإلا فهو مسؤول أمامَ القَرَأة عن التصريح بذلك المبهم؛ فإما المحمدة؛ لعِلْم وإما المذمَّة؛ لجُرْأة.

أمثلة:

  • مبهم الاسم. كأن يأتي في النص: (قال أحمد بن حجر) من غير أن يعين، أكان مقصود المؤلف (العسقلاني) أو (الهيتمي)؟

وإطلاقه في بعض الكتب يقتضي العسقلاني، فإن صادف وقصد به (الهيتمي) في النص تعيَّن على المحقق تعيينه.

  • مبهم الكنية. نحو أن يأتي في النص: (قال أبو عبد الله) من غير أن يعين أكان المقصود (أحمد بن حنبل)، أو (محمد بن إسماعيل البخاري) أو غيرهما، فإن استطاع المحقق تعيينه عيّنه بقرينة من القرائن المعتبرة، كأن يقف المحقق على النص المنقول في كتابه.
  • مبهم اللقب. مثاله: (قال شيخ الإسلام) من غير أن يعين أكان ابن تيمية أو زكريا الأنصاري أو غيرهما ممن أطلق عليه هذا اللقب، أو قال (جمال الدين) من غير أن يعين أكان (ابن مالك) أو غيره؟ أو قال: (جلال الدين)، ولا ندري أكان المقصود (السيوطي) أو (المحلّي) أو قال: (موفق الدين) ولا ندري أكان المراد (البغدادي) أو (ابن قدامة). فإن استطاع المحقق التعيين والقطع بالمقصود، فعل، وأحال إلى مصدر ذلك في حاشية النص.
  • مبهم النسبة. كأن يأتي في النص: (قال النيسابوري) من غير أن يعين أكان المقصود به (الحاكم) المحدث أو غيره، أو (قال البستي) من غير أن يعين أكان (ابن حبان) المحدث أو غيره؟

وحريٌّ بالمحقق أن يعين ذلك الإبهام مع ذكر دليل التعيين، كما تقدَّم.

  • مبهم المهنة. كأن يأتي في النص بيت أو أبيات من الشعر ولم تنسب، مثاله: (قال الشاعر). ولم يصرح باسمه.

فإن استطاع المحقق التعيين عيَّنه وإن كان في نسبته خلافٌ، ذكره، وإلا توقَّف.

  • مبهم الوفاة: نحو أن يذكر المؤلف اسمَ عَلَمٍ من الأعلام ذكْرًا يُعَيّنه، ولكن قارئ النص يحتاج فقط إلى معرفة سنة وفاته؛ ليحدد عصره، فيجدر بالمحقق -والحالة هكذا- ذكرها مع إيراد مصدر من مصادر الترجمة.
  • مبهم الكتب: كأن يقول المؤلف: جاء في كتاب (النكت) ولم يُعين مؤلِّفُه، وهو عنوان له مؤلفون كُثُر، ففي هذه الحالة ينبغي للمحقق أن يتدخّل بتعيين مؤلفه إذا استطاع وإلا توقّف عن ذلك.
  • صورة أخرى من صُور إبهام الكتب: كأن يأتي في النص: (قال صاحب التهذيب)، أو (ذكر صاحب الإكمال) أو (فصَّله صاحب البيان). أو أُضيف إلى اسم أستاذه كأن يأتي في النص: (وقال غلام ثعلب) أو (غلام خليل)، وكل هذا يحتاج إلى تعيين مع ذكر دليله.

  

-2-

التعليق على المجهول في النص

وقد يأتي في النص المحقق شيء يحتاج إلى تعريف أو تعليق يزيل به المعلّق ما ألمَّ به من غموض أو إبهام، فيحصل العزم من المحقق على ذلك ولكن المصادر لا تساعده على ما أراده، وفي هذه الحالة نجد المحققين بين أمرين اثنين:

الأول: التصريح بعدم معرفة الوارد في النص، أو التصريح بعدم الوقوف على شيء يُزال به هذا الغموض الذي احتفَّ بالنص، كما كان يعلّق الأستاذ محمود شاكر. انظر: جمهرة نسب قريش ص (9)، (13)، (104).

الثاني: الإعراض عن التصريح بعدم معرفة ما جاء في النص أو عدم الوقوف على شيء يُزال به غموض جاء به.

 

-3-

التعليق على الشارد في النص

المقصود بالشارد هنا البعيد في النص، وربط البعيد بالقريب، أو العكس، مما يتعين على المحقق فعله، وشرود الشيء في النص أُرجعه إلى سببين، هما:

  • وُعُود.
  • وتكرار.

أفصِّلهما في ما يلي:

3 /1: الوعود

  • وعْد بذكر: من الممكن أن يذكر المؤلف كلامًا لا يكون له فيه حاجة بذكره في حينه؛ إنما ذكره لشاهد يريده، ثم يكتب عبارة يَعِدُ فيها القارئ بذكر هذا الكلام الذي أعرض عنه، وللمؤلفين في ذلك عبارات منها: وسيأتي ذكره، وسيأتي تفصيله. فيجدر بالمحقق في مثل هذه الصورة أن يعزو في حاشية النص على موضع الذكر الأول بقوله: انظر ص كذا، ويحيل عند موضع الذكر الثاني إلى الأول.
  • وعد بإسهاب: وقد يوجز المؤلف في فكْرة ما، مع وعْد للقارئ بإسهاب مراده فيها، فلا ينبغي للمحقق النابه أن يُهمل العزو في موضع الإيجاز إلى موضع الإسهاب، بمثل ما تقدَّم.
  • وعد بَرَدٍّ: وقد يذكر المؤلف عبارة طويلة بغرض الرد عليها، فيتشعب به الحديث في الرد على أجزاء القول، ثم يبدأ في عرض المذكور سابقا رادا عليه، وفي هذه الصورة ينبغي على المحقق أن يعزو إلى كلامه السابق، مذكِّرًا القارئَ بصنيع المؤلف، وقد رأيت مثل هذا في كتاب (منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة القدرية) لابن تيمية في رده على ابن مطهر الحلي؛ إذ ذكر كلامه في موضع ما، ثم رد عليه بعد أكثر من ثلاث مئة صفحة من كتابه.

     3/ 2: التكرار

التكرار في النص واردٌ واقع من قبل المؤلف وله صور كثيرة، نحو:

  • تكرار الآيات والأحاديث: وتكرار الآية من كتاب الله في النص لك في التحشية عليها وجهان الأول: ذكر تخريجها في الموضع الأول، وفي كل موضع أتى بعد ذلك، والثاني: تخريجها في الموضع الأول، والإحالة إلى التخريج في كل موضع أتى بعد ذلك، أما تكرار الأحاديث فلا ينبغي ولا يصح أن يخرّج في كل موضع أتى من الكتاب إنما يخرّج في موضع الذكر الأول ويحاول إليه في الموضع الثاني وما بعده.
  • تكرار الشعر: وإن ذكر المؤلف بيتا من الشعر مفردًا ثم ذكره مرة أخرى في النص المحقق، فبعض المحققين في موضع الذكر الأول يجعل فيه إحالة إلى الموضع الثاني، والثاني إلى الأول، وبعضهم يُعرض عن مثل تلك الإحالة.
  • تكرار الأعلام والبلدان والغريب: يكفي في مواضع التكرار ذهِ العزو إلى موضع الذكر الأول المبيّن، ولا يصح أن يكون العزو في كل المواضع المتكررة إنما يُعْزى في موضع الذكر الثاني ويُوقف بعد ذلكَ العزوَ في كل موضع تكرَّر.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم