كلمة أ. د. فيصل الحفيان في الندوة الدولية المشتركة : مخطوطات العروض أسئلة الإرث والعصر وثنائية القاعدة والإبداع

بسم الله الرحمن الرحيم

بدأت هذه الندوة فكرة في لقاء جمعني والأخ الدكتور عبد الله الوشمي قبل شهور في مكتبي بمعهد المخطوطات العربية، وكان هو الذي قدح الزناد بسؤال كبير ذي طابع ببليوغرافي : ما هو حجم تراثنا في علم العروض ؟ ومن رَحِم هذا السؤال  خرجت أسئلة من العينة الببليوغرافية نفسها :

ماذا وصل إلينا  من هذا التراث، وكم نسبته؟ ومن ثَمَّ ماذا فقدنا ؟ وكم نسبته؟ وماذا نشرنا وكيف نشرنا؟، وكم نشرنا بالقياس إلى  ما وصل ؟ وأسئلة أخرى، وإلى هذه الأسئلة التي تتعلق بالإرث العروضي نفسه، كانت هناك أسئلة من نوع آخر مرتبط بالعصر ومنجزه، ومدى إسهام هذا المنجز في خدمة الإرث.

واتفقنا على أن نعقد ندوة نحتشد لها بالتعاون بين المعهد والمركز، بدأ التحضير للندوة، وأول ذلك – بداهة – تحرير الفكرة، ووضعها على الورق، ثم تحديد المحاور التي سنستكتب فيها الباحثين.

وفي أثناء التحرير وتحرير المحاور كبرت الفكرة، وشقَّتِ النواة التُّربة؛ ليصبحَ لها ساق وأغصان وأوراق، ذلك أن السؤال الببليوغرافي وما تفرَّع منه – على أهمية – ما كان ليبلَّ الصدى ولا ليشفي الغُلَّة في موضوع على هذه الدرجة من الأهمية، وبهذا الثراء المعرفي والفني والذوقي، وهو – كما نعلم جميعًا -ثمرة من ثمار العقل العربي المركَّب، والحس العربي الرهيف، أم الحسُّ فقد تجلَّى في الشعر ديوان العرب، ومستودع رفرفات نفوسهم ومشاعرهم وخواطرهم، وأما العقل فإن علم العروض شاهد من شواهده الكثيرة التي تثير الإعجاب، ولربما تدعو إلى العُجْب.

كان القصد هو التركيز على الذخيرة العروضية الخليلية وما يتصل بها من درس ببليوغرافي وتعريفي ونقدي، مخطوطًا ومنشورًا، وعلى المحاولات الجديدة المرتبطة بالمنجز التقني العصري في مقاربة المعرفة العروضية وتذليلها وتوصيلها إلى الأجيال الجديدة، وهو ما انعكس في الجزء الأول من العنوان الفرعي للندوة : أسئلة الإرث والعصر، بيد أن إغراء موضوع هذه المعرفة (أعني الشعر ) الذي كان العروض من أجله شَدَّنا شدًّا إلى أن ننظر أو ندعو إلى النظر في العلاقة بين العروض بوصفه علمًا وقواعد وضوابط، والشعر بوصفه إبداعًا، كثيرًا ما يتمرَّد على القاعدة، ويتأبى على قيودها، فكان أن وَصَلْنا الجزء الأول من العنوان وقرنَّاه بـ ” ثنائية القاعدة والإبداع” وما كُنَّا لِنَعي هذا التجاذب وندرك أسراره من غير أن نقف أو نقارب ولو مقاربة أولية طبيعة العروض العربي نفسه، لذلك سوَّرنا الندوة بمحاضرتين مستقلتين :

فاتحة لطبيعة العروض العربي، وناء بها الأستاذ الحساني حسن عبد الله، وخاتمة نظرت هذه الطبيعة من خلال استبطان موسيقى الشعر العربي، هذا الإبداع ذو الخصوصية التي تجمع في تناسق فريد بين ثبات الإيقاع، وتحولات الوقع، وقد نهد لهذا الدكتور سعد مصلوح.

وبين الفاتحة والخاتمة كان الدرس الذي بدأ بالدرس الببليوغرافي بانشغالاته التعرُّفية والتعريفية، وهو – للحق – درس لا تتسع له ندوة؛ إذ إنه يحتاج إلى زمن طويل، وطول نَفَس، كما أن مساءلته متعذِّرة لجهتين : جهة جفافه، وجهة قيامه على البيانات والإحصاءات والأرقام التي قد لايمكن محاكمتها عقليًّا. لذلك انشغلت به الندوة في جلسة أو بعض جلسة، وجرت مقاربته عن طريق العينة : مجاميع دار الكتب والأزهرية، والتراث العروضي في أرض نائية عنا مسافة، لكنها قريبة، ففيها الثقافة العربية والإسلامية، تلك هي الهند.

كما انشغلنا في جلسة أخرى بالدرس الفيلولوجي، نعني التحقيق للنصوص العروضية ذاتِها، فلا شك أن لهذه النصوص خصوصية مستمدة من طبيعة المعرفة ولغتها ومصطلحاتها وتقاليدها، مما يعني بالضرورة خصوصية المقاربة النقدية التحقيقية لها. وفي هذا الإطار نفسه كان لابد من الالتفات إلى موضوع العروض وبيت قصيدة ( الشعر).

تُرى كيف هو حاله – وهو الذي لا يخلو منه نَصٌّ تراثي –  من جهة تحقيقه،  ليكون على النهج القويم ، كما صدر  عن صاحبه، أو روي عنه، بعيدًا عن نسخ النُّساخ وأوهامهم وتصحيفاتهم وتحريفاتهم.

وفي قلب الفكرة ( النواة) تأتي الأسئلة الجديدة أو العصرية ذات العلاقة بمنجز العصر للتعرُّف والتعريف بما شاع من مصطلحي العروض الرقمي والعروض البديل، وعلى أي أسس اعتمدوا في مفهوميهما، وطبيعة الصلة بينهما وبين  العروض الخليلي في أصوله وبكارته التاريخية. لا بد أن يُتَوَّج الدرس التاريخي بأنواعه  بالدرس النظري الذي يتغيَّا التوظيف والاستثمار  حتى يتجدَّد وحتى نترك نحن للاحق تراثًا جديدًا، فمن حق من يأتي بعدنا أن يتكلَّم عن تراث له، وأن يفيد منه، كما فعل أجدادنا السابقون الذين نجتمع اليوم لمدارسة تراثهم، لذلك سوف تثير الندوة مجموعة من القضايا ذات الصلة بنظرية النصية العروضية والتوظيف الأسلوبي للبنية العروضية، والعلاقة التجاذبية التي أشرنا إليها بين قيد القاعدة العروضية وحياة البيت أو القصيدة الشعرية.

حاولنا في المخطط الذي بيننا، بصدق نية وإخلاص جهد، أن نحيط بأطراف قضية المعرفة العروضية وموضوعها الإبداعي، وكانت وسيلتنا إلى ذلك في الغالي هي التكليف، بمعنى أننا لم نكتف بتحديد محاور، ولإطلاق يد الأساتذة يكتبون في ما يريدون، وإنما كنا نطلب منهم أن يكتبوا في نقاط بعينها، ولعلنا نجحنا – إلى حَدِّ ما – في ما تغيَّيْنا، وبقيت في النفس أشياء، لربما نرجع إليها في ندوة أخرى.

رحم الله عبقري العربية وخليلها ذاك الذين نعته أبو الطيب اللغوي في مراتب النحويين بأنه ” مفتاح العلوم ومصرِّفها”، فالرجل لم يفتح بابًا، ولم يشقِّق علمًا واحدًا، إن علم العروض الذي وضعه واستنبط قوانينه وعلله إنما هو سُهمة من سُهَمه.

عودًا على بدء أقول: شُغِلتُ ببسط فكرة الندوة عن أن أتوجه بالشكر لمركز الملك عبد الله الدولي لخدمة اللغة العربية، هذا المركز الذي يبذل جهود مقدرة ويؤدي رسالة سامية تجاه الوطن الواحد الذي يجمعنا : وطن اللغة العربية، ولن أنسى أن أنوه بأخي الدكتور عبد الله الوشمي الأمين العام للمركز الذي كنا معه على تواصل مستمر، كان من ثمراته هذه الندوة، وأيضًا التقارب الإنساني، أظنه عرفني، وأظنني عرفته أكثر.

شكري وتقديري كذلك لمن تقوم عليهم ندوتنا من خارج مصر : السعودية والأردن والهند، ومن داخل مصر، وهم – وإن – كانوا من مصر، فقد تفضَّلوا بالقدوم من خارجها حيث يعملون في الكويت وسلطنة عُمان.

وحتى لا أقع في شرك النسيان الذي جُبلنا عليه أستميحكم عذرًا ألا أذكر أسماء ، مسمياتكم فوق الأسماء.

كدت أنسى – دون أن أُخِلَّ بالتزامي غض النظر عن الأسماء – أن أنوِّه بجهد زملائي في المعهد، فريق العمل من باحثين وفَنِّيِّين وسكرتارية وإداريين الذي بذلوا كل ما يستطيعون من أجل أن تظهر هذه الندوة بالشكل الذي نرتضيه.

شكرًا لكم على سعة الصدر، والله تعالى من وراء القصد دائمًا

*   *   *