رشاد عبد المطلب والحياة المصرية في مرآة إبراهيم شبوح

النشر الرقمي باعتماد المعهد

تراثنا

turathuna@malecso.org

السلسلة الثقافية (26)

رشاد عبد المطلب والحياة المصرية

في مرآة

إبراهيم شبوح

خبير التراث بالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو)

 

العزو المرجعي:

رشاد عبد المطلب والحياة المصرية في مرآة إبراهيم شبوح، تراثنا للنشر الرقمي باعتماد معهد المخطوطات العربية، السلسلة الثقافية (26)، السنة الثانية، 2019.

 

رشاد عبد المطلب والحياة المصرية

 في مرآة

إبراهيم شبوح

 الالتحاق بجامعة القاهرة 1956م:

أذكر أني دخلت مصر آخر صيف 1956م؛ لألتحقَ بجامعة القاهرة لدراسة الحضارة والآثار الإسلامية، كانت الأحوال متوتِّرة والناس يعيشون الحيرةَ والفزعَ؛ ترقُّبًا لمجهول بعد إعلان تأميم القناة، وفِنَاءُ الجامعة يزخَر بالشَّباب المتحمِّس للتدريب العسكري على استعمال السلاح، كان جوًّا مفعمًا بالوطنيَّة والشُّعور بالذَّات والاسْتعداد للفداء في سبيل الوطن.

تمت مراسم قَبولي في الجامعة بفضل عناية أستاذنا المرحوم حسين مؤنس الذي عرفته في تونس قبل القدوم، وبدأت أشعر بالتكيُّف والاستقرار.

في معهد المخطوطات:

كان أوَّل ما هدفت له منذ الشهر الأول أن أزورَ دار الكتب المصرية وأتعرَّف على الرَّجل الذي نشر طبقات الأطباء نشرة نموذجية الأستاذ العالم فؤاد سيِّد، وأن أزور معهد إحياء المخطوطات العربية، وأقابل الدكتور صلاح الدين المنجد الذي تعرَّفتُ عليه في تونس التي زارها في بعثة تصوير من المعهد.

كان المعهدُ وقتها في قصر الأمير فؤاد بشارع البستان: غرفتان على يسار الداخل، بينهما ممرٌّ ضيِّق، كانتا مخصَّصتين للحرس، لكل منها نافذة كبيرة تطلُّ على الداخل والخارج، وتُراقب القصرَ الإيطاليَّ الطراز المكعَّب الشكل بسلالمه الخشبيَّة الثلاثة.

اللقاء الأول:

لم يكن الدكتور المنجد موجودًا؛ فاستقبلني صاحب الغرفة المقابلة الأستاذ محمد رشاد عبد المطلب، أقبل عليَّ بقامته الفارعة مُسلِّمًا بحرارة لم أعهدها، ويكرِّر التَّرحاب ويعيده بين الفينة والأخرى، ثم أخذ في ذكر من عَرَفه من تونس والمغرب، ويسأل عن المنشورات الجديدة، وكان وقتَها معنيًّا بمختصر كتاب المدارك للقاضي عياض لخَّصه ابن حمادو، فأكثر من السؤال عن هذا الاسْم وضَبْطِ نُطقه، وأطلَعني على صفحاتٍ من هذا العمل.

برنامج حافل لزيارة علماء مصر:

ودخل الرّجلُ إلى نفسي، وتفضَّل فأعدَّ لي برنامجًا لزيارة بعض علماء مصر، زرتُ معه:

  • العلَّامة المرحوم الشيخ أحمد محمد شاكر،
  • وأستاذَنا الأديب العلامة محمود محمد شاكر الذي أصبحت أحد تلاميذه الأقربين،
  • والمحقِّق الكبير عبد السلام هارون،
  • وعرَّفني بالأستاذ الكبير عبد العزيز الأهواني الذي فتح لي بقلبه وعقله المنظَّم مناطقَ الحيرة في نفسي، فهتفَ إلى صديقه أستاذنا المرحوم جَمال محرز، وكان وقتها من رجال مؤسّسة الآثار، فاصطحبني في زيارة علمية دقيقة إلى مُتْحف الفنّ الإسلامي بباب الخَلْق، وشرح لي بتفاصيل العالِم المختص محتوى قاعاته الفنّية، وأكَّد لي بأسلوبه وحُسن رَبْطه بين الأشياء المتباعدة سلامَة اختياري للفرع الذي أردتُ التَّخصص فيه.
  • وعرّفني بأخي العالم المرحوم عبد الرّحمن عبد التواب كبير مفتشي الآثار الذي اصطحبني لمدة ثلاثة أيام لزيارة القاهرة القديمة ومعالمها الباذخة الغنيَّة، والفسطاط وقبّة الشافعي وكنائِس بابليون.

مذاكرات … وأعلام

وقد كان تردّدي على دار الكتب المصريّة قد وثَّق صلتي بشخصين حبيبين إلى نفسي بما لهما من العلم والذكاء وصفاء النفس، أخويّ الكبيرين: فؤاد سيّد، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، وكنا ثلاثتنا نلتقي بالأستاذ رشاد خارجَ العمل، وقد يحضر مَعنا شيخُنا العلامة حمد الجاسر عندما يكون في مصر، أو نكون في زيارة الأستاذ الكبير الشاعر خير الدين الزركلي بمنزله في الرّوضة مع من يَرد على مصر من كبار العلماء وأكثرهم معرفة بالتراث المخطوط، أذكر منهم العلامة عبد العزيز الميمني الراجكوتي، والكتبي السّلاوي العالم الفقيه أبو بكر التطواني، ولنا في هذه الملتقيات ذكريات من مذاكرات العلم والأدب والإفاضة المشتركة بما يسلّط على القضايا التّراثية المعروضة من أضواء كاشفة.

مثابة العلماء والمستشرقين

كان مكتب أخي رشاد رحمه الله مثابةَ الزائرين من عُلماء العرب والمستشرقين، عرّفني فيه إلى نخبة تمكنت علاقتي مع بعضهم، وَوَالَى عنايته بي فقرَّب إليَّ الحياة الثقافية والفكرية في القاهرة وجعلَني أنفذ إليها بيُسْر، خَصَّص وقتًا زرنا فيه المكتباتِ التّراثية، وحدّثني عن مراتب منشوراتها حديثَ عارفٍ يعلم، عرّفني بالسّيد حسام الدين القدسي، ونصحني بما أَقتني من كتبه ممَّا يفيد في المستقبل. وعرّفني بالفنّان المتميز أبرعِ مجلِّدي مصر المرحوم سعد خضر، وتعلَّمت من رشاد ضرورةَ تجليد الكُتب حسب مُستوياتها وما يجب ألّا نقطع أطرافه حتى يمكن التعليق في حواشيه الواسعة.

ذاكرة دقيقة:

كان رشاد رحمه الله مكتبيًّا متمكنًا وله ذاكرةٌ دقيقة لكل ما رأَى وسَمع وقرأَ، واكتسب خبرةً واسعة بالتّراث المخطوط وأجاد فهرستَه في رِحلات البعثات التي قام بها المعهد في الهند وتركيا صحبةَ مصوِّر الميكروفيلم البارع المرحوم أحمد سالم الذي له الفضل في تصوير تلك المجموعات الأولى من تراث الأمّة النّادر التي كان لرشاد فضل اختيارها.

معرفة عالية بالمخطوطات:

وقد كان في رحلاته الرسميّة للمعهد حريصًا أن يختار للمخطوطات المهمّة بمادتها ومؤلفها أكثر من نسخة حتى يمكّن الدارسين والمحقّقين من المقابلة المفيدة.

إجادة الإنجليزية:

كان رشاد يجيد الإنكليزية محادثة وكتابة، لذلك تمكنت علاقته بكبار المستشرقين الذين كانوا يقدّرونه، وكان يزوّدهم بأحدث ما صدر في مصر من كتب التراث، بعد أن وَفّر معهد المخطوطات بمصوّراته النادرة القديمة أُسُسًا لنشرات محقّقة سليمة باعتماد الأصول المهمة التي جلبها المعهد في بعثاته.

استعانة بعض الجامعات به:

واستعانت به بعضُ الجامعات الكبيرة بدءًا بالجامعة الأمريكية في القاهرة وبعض جامعات أمريكا وبريطانيا، وفتحت له مجالًا للمحاضرة على مُدرَّجاتها في طلبة الاختصاص للتعريف بالتراث ومصادر العمل المهمّة، وكان مقدَّرًا في كلّ ما قدّمه من عطاء علمي نافع عَرضَهُ ببراعة واقتدار.

محبَّة كل من عرفه له:

لقد أحبّه كل الذين عرفوه وأدركوا سلامة باطنه واستفادوا من سديد نظره في معرفة وتقييم الكتاب المخطوط الذي يزكّيه بعد الفحص ويُبرز مميزاته ودَرجة الاعتماد عليه.

وختامًا:

يمكن أن أؤكّد أن الأستاذ رشاد عبد المطلب كان نموذجًا متميزًا في الحياة الثقافية المصرية، بلطفه وعلمه وعونه، وكان كما يصفه أستاذنا خير الدين الزركلي: “شُعْلة نشاط”.

رحم الله رشاد عبد المطلب، فقد قدّم الكثير لوطنه وللأمة العربية وثقافتها، وانطوى كالجندي المجهول لا يذكر رموزه إلّا العارفون بما قدّم في نضاله ومثابرته، ويرحم الله ذلك الجيل الذي ازدهر عطاؤه في أيام رشاد عبد المطلب، فقد كان دافعًا ومثيرا وباعثا لما حققه رشاد من تميز وتأثير.

 

صورة ملتقطة عام 1956 أمام معهد المخطوطات. من اليمين: عبد الستار فراج، وأحمد المانع، وعبد العزيز الميمني، وإبراهيم شبوح، ورشاد عبد المطلب([1]).

([1]) ذيل الأعلام للأستاذ أحمد العلاونة (122).