نصوص من التراث المغربي الأندلسي – بقلم منتصر الخطيب

تراثنا للنشر الرقمي باعتماد المعهد

السلسلة الثقافية

(28)

turathuna@malecso.org

نصوص من التراث المغربي الأندلسي

نص فتوى أبي جمعة المغراوي (ت920هـ/1514م) للأندلسيين المغرّبين

منتصر الخطيب

مدينة تطوان/المملكة المغربية

مدخل:

يعرف المورسكيون بأنهم هم العرب الذين تظاهروا بالنصرانية وعاشوا تحت الحكم الإسباني في الأندلس, بعد إرغامهم على التنصر وعلى ترك لغتهم العربية، واتخاذِ القشتالية لغةً للتخاطب والتعامل، منذ سقوط غرناطة آخر حواضر الإسلام بالأندلس في أيدي الإسبان سنة (897هـ/1492م).

وقد عاش هؤلاء الأندلسيون المورسكيون في شبه الجزيرة الإيبيرية حياة حافلة بالمخاطر بعدما حاول النصارى الإسبان تحويلهم قسرًا إلى النصرانية، فكانوا طيلة القرن السادس عشر نصارى في الظاهر مسلمين في الباطن، في ظل المحاولات المتتالية لدمجهم بأوامر من الملك ومحاكم التفتيش التي استخدمت فيها وسائل ترهيبية مثل الإعدام والتعذيب والطرد والتفتيش ومصادرة الأملاك، ووسائل ترغيبية مثل الموعظة والزواج المختلط، إلى أن انتهى الأمر بالعديد منهم في نهاية المطاف إلى الطرد من الجزيرة الإيبيرية نحو بلدان المغرب العربي ومصر وسوريا، بعد أن  أصدرت إسبانيا قرارها الشهير بنفيهم من أراضيها في سنة (1017هـ/1609م).

ومن ثم عانى المورسكيون في خلال هذه الحقبة الطويلة ألوانًا مروعة من الاضطهاد المدني والديني, ومن مطاردة ديوان التحقيق الإسباني في محاكم التفتيش، انتهت بهم إلى أن يتخذوا لأنفسهم لغة سرية خاصة، وجدوا فيها متنفسًا للتعبير عن أفكارهم وآدابهم ومكاتباتهم هي لغة “الألخميادو” الشهيرة وهي القشتالية المحرفة وتكتب بحروف عربية.

لكنهم وجدوا في أثناء ذلك من يثبتهم على التمسك بدينهم الإسلام، بسبب استمرار الفقهاء من داخل وخارج الأندلس بنشر الفتاوى التي كانت تحثهم على الهجرة كفتاوى الونشريسي، أو التي كانت تنصح من لم يستطع الهجرة بالحفاظ على الإسلام باطنًا والاعتقاد به سرًّا، كفتوى مفتي وهران أحمد بن أبي جمعة الوهراني.

وقد كانت مغادرة المورسكيين لإسبانيا يومئذ من الأمور الصعبة والخطرة، وكانت السلطات الإسبانية تتخذ كثيرًا من إجراءات الحراسة المشددة للثغور والشواطئ تحوُّطًا من فرار المورسكيين إلى الشواطئ المغربية.

ففي ظل تلك الظروف العصيبة، أرسل أهل مملكة غرناطة ومسلمو قشتالة إلى علماء المغرب يستفتونهم في مصابهم وكيف يتعاملون مع قرار تنصيرهم الذي خيرهم بين الكاثوليكية والويل والثبور، فأجابهم أحد هؤلاء الفقهاء وهو الفقيه أبو جمعة الوهراني المغراوي، بفتوى وُجهت أساسا لمسلمي مملكة غرناطة وقشتالة، لمواجهة التنصير القسري.

– التعريف بأبي جمعة المغراوي:

هو الفقيه أبو العباس أحمد بن جمعة المغراوي الوهراني المقرئ الأديب، صاحب الفتوى الشهيرة إلى الموريسكيين من أهل الأندلس، وكتاب “جامع جوامع الاختصار والتبيان فيما يعرض بين المعلمين وآباء الصبيان “[3][4] والذي كتبه حوالي العام 898هـ – 1493م.[5].

قال ابن عسكر: قدم فاس ودرس بها، وكان من الفقهاء الأعلام، ألّف كتاب “جامع جوامع الاختصاص والتبيان في ما يعرض بين المعلمين و آباء الصبيان”.

ومات في العشرة الثالثة من القرن العاشر”، أي أنه مات ما بين 920 و 930 هجرية، الموافق ل 1514و 1524 ميلادي .ونسبة “المغراوي” إلى مغراوة وهي قبيلة من زناته، إحدى القبائل الكبار من برابرة المغرب، ومنه يفهم نسبته إلى وهران المدينة المعروفة، فإنها تقع في مجالات مغراوة.

واختار آل شقرون مدينة فاس مكان هجرتهم دون سائر حواضر المغرب الإسلامي كتلمسان بعد الخروج من الأندلس، لأن فاس على خلاف تلك المدن كانت تعرف استقرارًا نسبيًّا، أما تلمسان فكان يتجاذبها في ذلك الوقت النصارى والعثمانيون، لذلك كان كثير من أهلها ومن أهل وهران يهاجرون إلى فاس.

وهو ليس صاحب الجيش والكمين لأنه ابنه الذي تذكر جل المصادر التي ترجمت له أنه أبو عبد الله المغراوي الوهراني الشهير بشقرون، وأن الرسالة المسماة بـ”الجيش والكمين لقتال من كفر عوام المسلمين” صحيحة النسبة إليه، وقد ألفها استجابة لاستغاثة بعض العوام به، لحل معضلة كلامية عظيمة في الحكم على (إيمان العوام).

موضوع الفتوى ونسخها:

فتوى أبي جمعة الوهراني كتبت سنة 1504 بالعربية، و حُملت إلى الجزيرة الإيبيرية عبر بلنسيةَ التي كان ميناؤها معبرًا للقادمين من الأندلس. وقد أعاد كتابتها مدجن أراغوني في العشرية الثانية من القرن 16م وحملها إلى أراغون مع نصوص عربية أخرى هناك، ثم ترجم المورسكيون هذه الفتوى إلى اللغة الإسبانية بالحروف العربية (الألخميادو) سنة 1563م، وهي النسخة المحفوظة بمدريد [7] في سنة 1609م، وقبيل الطرد النهائي من الأندلس ترجم المورسكيون الأراغونيون هذه الفتوى مرة أخرى إلى الألخميادو، وهي النسخة المحفوظة اليوم بفرنسا.

وهكذا توجد اليوم ثلاث نسخ لهذه الفتوى المهمة للمورسكيين:

–    النسخة الأولى بمكتبة الفاتيكان، و قد عثر عليها العلامة المصري محمد عبد الله عنان أثناء أبحاثه هناك، و قد نشرها سنة 1958م في كتابه: “نهاية الأندلس و تاريخ العرب المنصرين”. كما يبدو أن المؤرخ البريطاني هارفي قد عثر على نفس النسخة العربية، وقام بترجمتها للإنجليزية سنة 1962م بمناسبة أشغال المؤتمر الأول للدراسات الإسلامية لقرطبة.

–  النسخة الثانية هي ترجمة ألخميادية للفتوى، وتوجد في الأكاديمية الملكية بمدريد، وقد نشر جزءًا منها المؤرخ لونغاس سنة 1915م في كتابه “الحياة الدينية للمورسكيين”، وأجرى عليها تعديلات طفيفة.

– النسخة الثالثة هي أيضا ترجمة للألخميادو، وتوجد في مكتبة ميجان بإيكس أون بروفانس بفرنسا، وتاريخ النسخة العربية لهذه الفتوى المترجمة للألخميادو هو رجب 909 هجرية (ديسمبر 1503)، وقد نشر هذه النسخة الألخميادية المؤرخ الفرنسي كانتينو في مجلة “الجريدة الأسيوية” سنة 1927.

[الفتوى]

نص فتوى أبي جمعة الوهراني للأندلسيين المغرّبين:

(الحمد لله والصلاة على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما،

إخواننا القابضين على دينهم، كالقابض على الجمر، ممن أجزل الله ثوابهم في ما لقوا في ذاته، وصبروا النفوس والأولاد في مرضاته، الغرباء القرباء إن شاء الله من مجاورة نبيه في الفردوس الأعلى من جناته، وارثو سبيل السلف الصالح في تحمل المشاقّ وإن بلغت النفوس إلى التراق، نسأل الله أن يلطف بنا وأن يعيننا وإياكم على مراعاة حقه بحسن إيمان وصدق، وأن يجعل لنا ولكم من الأمور فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا.

بعد السلام عليكم من كاتبه إليكم، من عبيد الله أصغر عبيده وأحوجهم إلى عفوه ومزيده، عبيد الله تعالى أحمد ابن بوجمعة المغراوي ثم الوهراني.

كان الله للجميع بلطفه وستره، سائلًا من إخلاصكم وغربتكم حسن الدعاء، بحسن الخاتمة والنجاة من أهوال هذه الدار، والحشر مع الذين أنعم الله عليهم من الأبرار، ومؤكدًا عليكم في ملازمة دين الإسلام، آمرين به من بلغ من أولادكم، إن لم تخافوا دخول شرٍّ عليكم من إعلام عدوكم بطويتكم، فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس.

وإن ذاكر الله بين الغافلين كالحي بين الموتى، فاعلموا أن الأصنام خشب منجور، وحجر جُلْمود لا يضر ولا ينفع، وأن الملك ملك الله، ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله، فاعبدوه واصطبروا لعبادته، فالصلاة ولو بالإيماء، والزكاة ولو كأنها هدية لفقيركم أو رياء، لأن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن إلى قلوبكم، والغسل من الجنابة، ولو عومًا في البحور، وإن مُنعتم فالصلاة قضاء بالليل لحقِّ النهار، وتسقط في الحكم طهارة الماء، وعليكم بالتيمم ولو مسحًا بالأيدي للحيطان، فإن لم يمكن فالمشهور سقوط الصلاة وقضاؤها لعدم الماء والصعيد، إلا أن يمكنكم الإشارة إليه بالأيدي والوجه إلى تراب طاهر أو حجر أو شجر مما يتيمَّم به، فأقصدوا بالإيماء، نقله ابن ناجي في شرح الرسالة لقوله صلى الله عليه وسلم: (فأتوا منه ما استطعتم).

وإن أكرهوكم في وقت صلاة إلى السجود للأصنام أو حضور صلاتهم فأحرموا بالنية وانووا صلاتكم المشروعة، وأشيروا لما يشيرون إليه من صنم، ومقصودكم الله، وإن كان لغير القبلة تسقط في حقكم كصلاة الخوف عند الالتحام.

وإن أجبروكم على شرب خمر، فاشربوه لا بنية استعماله، و إن كلفوا عليكم خنزيرًا فكلوه ناكرين إياه بقلوبكم، ومعتقدين تحريمه، و كذا إن أكرهوكم على محرّم، وإن زوجوكم بناتهم، فجائز لكونهم أهل الكتاب، وإن أكرهوكم على إنكاح بناتكم منهم، فاعتقدوا تحريمه لولا الإكراه، وأنكم ناكرون لذلك بقلوبكم، ولو وجدتم قوة لغيَّرتموه.

وكذا إن أكرهوكم على ربا أو حرام فافعلوا منكرين بقلوبكم، ثم ليس عليكم إلَّا رؤوس أموالكم، وتتصدقون بالباقي، إن تبتم لله تعالى.

وإن أكرهوكم على كلمة الكفر، فإن أمكنكم التورية والإلغاز فافعلوا، وإلا فكونوا مطمئني القلوب بالإيمان إن نطقتم بها ناكرين لذلك، وإن قالوا اشتموا محمدًا فإنهم يقولون له مُمَدْ، فاشتموا مُمَداً، ناوين أنه الشيطان، أو مُمَد اليهود فكثير بهم اسمه.

وإن قالوا عيسى ابن الله، فقولوها إن أكرهوكم، وانووا إسقاط مضاف أي عبد الله مريم معبود بحق، وإن قالوا: قولوا المسيح ابن الله، فقولوها إكراها، وانووا بالإضافة للملك كبيت الله لا يلزمه أن يسكنه أو يحل به، وإن قالوا: قولوا مريم زوجة له، فانووا بالضمير ابن عمها الذي تزوجها في بني إسرائيل، ثم فارقها قبل البناء. قاله السهيلي في تفسير المبهم من الرجال في القرآن، أو زوجها الله منه بقضائه و قدره.

وإن قالوا عيسى قد توفي بالصلب فانووا من التوفية والكمال والتشريف من هذه، وإماتته وصلبه وإنشاد ذكره، وإظهار الثناء عليه بين الناس، وأنه استوفاه الله برفعه إلى العلو.

وما يعسر عليكم فابعثوا فيه إلينا نرشدكم إن شاء الله على حسب ما تكتبون به، وأنا أسأل الله أن يُدِيل الكرَّة للإسلام حتى تعبدوا الله ظاهرًا بحول الله، من غير محنة ولا وجلة، بل بصدمة الترك الكرام.

ونحن نشهد لكم بين يدي الله أنكم صدقتم الله و رضيتم به، ولا بد من جوابكم والسلام عليكم جميعًا.

بتاريخ غرة رجب عام عشرة وتسعمائة عرف الله خيره).

(يصل إلى الغرباء إن شاء الله تعالى غرة رجب 910 هجرية، (18-11-1504م)).[6]

على سبيل الختم:

هكذا اضطر المورسكيون إلى أن يتظاهروا بأنهم نصارى خوفًا من ملاحقات محاكم التفتيش التي كانت تقتل كل من تظهر عليه علامات تدل على أنه مسلم أو عربي، إلى درجة أنهم بدلوا أسماءهم، وفضل بعضهم الخروج إلى البلاد العربية، كما فعل أحمد بن قاسم الحجري الأندلسي الذي لقب نفسه بأفوقاي خشية التعرف إليه، مما سجله في كتابه “ناصر الدين على القوم الكافرين” أو مختصر كتاب “رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب” فأصبح الوثيقة التاريخية الأكثر أهمية التي أرخت لإجلاء المسلمين من الأندلس، ما بين سنتي 1609 و1614م.