تراثنا – السلسلة الثقافية (29) قضية نقد «متون الصحيحين»

النشر الرقمي باعتماد المعهد

تراثنا

السلسلة الثقافية (29)

قضية نقد «متون الصحيحين»

صلاح فتحي هَلَل

باحث ومحقق في السنة النبوية

11/ 8/ 1441

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الغُرِّ الميامين.

وبعد:

فقد باتت الشهرة اليوم موقوفة على الطعن في الدين، والتلاعب بالنصوص، والإلحاد في معانيها، بالتغيير أو الرَّدِّ، وأضحى ذلك سمة ظاهرة، وطريقة متبعة، لدى كثيرٍ مِمَّن قصرتْ بهم عقولهم عن تحصيل صحيح العلم، فوقفوا عند أسواره، ولم يسبروا أغواره، فعالجوا نقصهم، وأَخْفَوا عجزهم؛ بالطعن في الأصول والثوابت.

ولم يقف الأمر على ضعفاء العلم، ضعفاء البصر، فامتدّ البلاء لبعض المنتسبين للعلم، المنتمين للقراءة في بابٍ مِن أبوابه، بَيْدَ أنَّ معرفتهم ببابٍ لا تساعدهم على معرفة بقية الأبواب، ولا تشفع لهم في دخولها من دون هُدًى ودراية، ورغم هذا دخلوا أبوابًا أخرى ليست لهم، وتكلّموا في أمورٍ ليستْ مِن فنِّهم، وحدِّث ولا حرج عن عجائب وغرائب صدرتْ عنهم، وشاعت على ألسنتهم.

ومِن ذلك ما قرأناه أخيرًا لبعضهم حول قضية «نقد المتن»، وكلامه في أحاديث مِن «صحيح البخاري»، بحجة مخالفتها للقرآن الكريم.

ولسنا ندخل معه أو مع غيره في آحاد المسائل، وأفراد الأحاديث، إذ الكلام على آحاد المسائل فرع على أصولها الكلِّيَّة، وقواعدها العامة، وليس يحسُن الكلام على الفروع مع إنكار الأصول والقواعد، وما لم يحصل الاتفاق في الأصول؛ فلن يقع في الفروع.

ولابد في هذه المناسبة مِن الإشارة لأمرين:

الأمر الأول: خضوع متون السُّنَّة النبوية عامة للنقد والتحليل، من لحظتها الأولى، عندما وقف الكفار بالمرصاد؛ لكلِّ كلمةٍ أو حرفٍ يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، رجاء ضرب نصوص الإسلام بعضها ببعضٍ، ثم حمل الراية بعدهم من حملها من مدعي العقلانية، مِن سائر الأمم والفرق الهالكة، وصولًا إلى عقلانِيِّ عصرنا وعَلْمَانِيِّه.

مما استنفر جهود أهل الدين والعلم والفضل وهممهم مِن قديمٍ، للكلام في معنى متون الروايات، والجمع بين ما ظاهره التعارض، وإزالة الإشكال الظاهري عنها.

وفي هذه الأبواب عشرات المؤلَّفات التي كتبها كبار العلماء قديمًا وحديثًا، في المشكل والتعارض والترجيح وما في مجراها.

وهي بفضل الله تعالى كافية لكل راغبٍ في الوصول للحقِّ، طامعٍ في الحقيقة.

الأمر الثاني: المتون المذكورة في «الصحيحين» خاصةً؛ قد خضعتْ لعددٍ كبيرٍ جدًّا مِن عمليات التدبُّر والتحليل والنَّقد، مِن فقهاء مجتهدين، وأصوليين عالمين، بدايةً بالإمامَيْن البخاري ومسلم، مرورًا بأصحاب شروح هذه الكتب ومختصراتها والكلام عليها، وصولًا إلى ضبطها وتدقيقها ورواية أصولها، حتى تم تحقيقها ونشرها في عصرنا.

وهي في كل مرحلةٍ مِن مراحلها قد خضعتْ لعمليات علمية هائلة.

فالبخاري على سبيل المثال قد قام على طبع «صحيحه» عدد مِن علماء الأزهر الشريف، منهم شيخ الأزهر في زمانه، أثناء طباعة الطبعة «السلطانية»، فضلًا عن غيرها مِن الطبعات التي قام عليها علماء أجلَّاء آخرون أيضًا.

وفي كلِّ هذه المراحل كانت تمرُّ هذه المتون أمام بصر ونظر هؤلاء العارفين الأجلَّاء، فلم ينكرها أحدٌ منهم، كما لم ينكرها مَن قبلهم مِن كبار الأئمة، وأفذاذ السادة العلماء.

فالمخالف في الكلام على هذه المتون؛ هو في حقيقته مخالفٌ لجميع هذه الجهود والعقول التي تناولت متون السُّنَّة عامة، أو متون «صحيح البخاري» خاصة.

والبخاري فقيهٌ مجتهدٌ، أميرٌ للمُحَدِّثين، لا يُشَقّ له غبار في الفقه مثلما هو في الحديث، وقد تكلَّم الناسُ على فقه البخاري، وأطالوا في شرح إبداعاته، وما حَوَتْه تراجم كتابه مِن علومٍ، استقاها مِن روايات كتابه، التي انتقاها بعنايةٍ فائقةٍ، ووقف أمام أسانيدها ومتونها طويلًا، لاستخراج دقيق المعاني التي خَفِيَتْ على غيره.

ليأتي اليوم عاجزٌ عن فهم البخاري على حقيقته؛ ليتكلّم في بعض متون «صحيح البخاري»!.

فإِنَّها لإحدى الكُبَر! أنْ يتكلَّم في كتابه مَن لم يفهم طريقته، ولا سَبَر أغوار منهجه.

ومفاد ذلك كله مرور تلك المتون جميعها بعشرات العقول والأبصار، مع اختلاف الأنظار، وتعدُّد مشارب الناظرين الفقهية، فأجمعوا على قبولها، وإِن اختلفوا في بعض معانيها، أو أسانيدها، لكنهم أجمعوا على قبول متونها في الجملة.

وقضية نقد المتن في حقيقتها تفيد ردّ معاني بعض المتون؛ لإشكاليَّة لدى الرَّادِّين تجاه هذه المعاني، تصدر عن نصرةٍ لعقيدةٍ مخالفة، أو مؤامرة بدْعِيَّة، وتَبِعَهُم في ذلك بعض المغرورين بعقولهم، المخدوعين في قُدْرَاتِهم، ممَّن ليس لهم في العير ولا في النَّفير؛ غرَّهم ثناءُ فارغٍ، أو مدْحُ بَطَّالٍ؛ فظنُّوا بأنفسهم وظنُّوا، وما هو إلَّا ظلام الفجر عندما يسمع عن اقتراب الشمس فيهرب مِن أمامها، وينزوي قبل سطوعها، إذْ لا قدرة لظلامٍ أمام ضوء، ولا لباطلٍ في وجه حقٍّ.

وتلك هي المعركة في أصولها، والقصة في حقيقتها، فليس الأمر في أغلبه مجرَّد طلبٍ لمعرفة، أو رغبةٍ في وصولٍ لحقٍّ.

ولو سألتَ هذا أو ذاك عمَّن يكون البخاري على حقيقته؛ ما أجابك منهم أحدٌ، لضعفهم وجهلهم.

وقد كانت بلادٌ بأكملها تخرج على بُعْدِ مسافةٍ طويلةٍ منها؛ انتظارًا للبخاري، وابتهاجًا بقدومه إليها، ثم تجتمع لا يغيب عنها غائب، فتسمع منه «صحيحه»، فسَمِعُه علماء البلدان، وأئمة الأمصار، وما زالوا في ازدياد وتسابُقٍ إلى سماعه وروايته عنه، لم ينكره مُنْكِرٌ، ولم يرُدُّه رادٌّ، ولا تفوَّه مِن أئمة الأقطار أحدٌ بربع ما تفوَّه به ادعياء العقول.

وكان في هؤلاء أئمة كبار في سائر مجالات العلم، حديثًا وتفسيرًا، وأصولًا وفِقْهًا، روايةً ودرايةً، فما ازداد الكتاب بينهم إِلَّا رفعةً وقبولًا، وإنْ خالفه الدارقطني في حروفٍ مِن أسانيده، لا تضرّ متونه شيئًا.

ولو تعقَّلَ العقلانيون الجُدُد؛ لعَلِموا أنَّ مخالفة الدارقطني وغيره للبخاري في حروفٍ مِن أمور الرواة، ومسائل الأسانيد، من دون المتون؛ هو في حقيقته تأييد واجتماع منهم مع البخاري على صحَّة تلك المتون الشريفة التي جمعها البخاريُّ.

بل صرَّح البخاريُّ بضدِّ هذه الحروف، وألمح إلى تحاشيها وعدم إرادته لها، فلا يمكن والحالة هذه أَنْ يُتَّهم بما أبدى رغبته في ضدّه، ولا ما ألمح لرفضه.

مثالُ ذلك:

انتقاد البخاري بما لا يوجد في كتابه؛ وإلزامه بما لا يلزمه، والاحتجاج بكتاب «الإلزامات» للدارقطني.

إذْ هو نقيض ما أراده البخاري، وضدّ ما رَغِبَ فيه مِن اختصار كتابه، وعدم إطالته.

ويتجلَّى هذا مِن ذِكْر كلام الدارقطني مقارنةً بما سبقه في لفظ البخاري.

فقد قال الدارقطنيُّ في أول كتابه (ص/ 64): «ذِكْرُ ما حضرني ذِكْرُه ممَّا أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ، أو أحدهما، مِن حديثِ بعضِ التابعين، وتركا مِن حديثه شبيهًا به، ولم يخرجاه، أو مِن حديثِ نظيرٍ له مِن التابعين الثقات؛ ما يلزم إخراجه على شرطهما ومذهبهما».

فهو يتكلم في «إلزاماته» على أمرين:

أولهما: أحاديث جماعةٍ مِن التابعين خَرَّجَ لهما البخاري ومسلمٌ شيئًا وتركا شيئًا.

وثانيهما: أحاديث جماعةٍ مِن التابعين أخرجَ لهما البخاريُّ ومسلمٌ، وتركا حديث نظائر لهم مِن التابعين.

فالدارقطني يستدرك على البخاريِّ ومسلمٍ؛ هذين الصِّنْفين مِن الأحاديث والروايات، ويرى أَنَّها لازمة لهما، أي كان عليهما إخراجها.

ومفاد ذلك أَنَّ ثمة أحاديث أخرى صحيحة، يرى الدارقطنيُّ أَنَّها تتفق مع شرط البخاريِّ ومسلم، ومِن ثَمَّ يستدركها، ويرى أَنَّه كان عليهما إخراجها في كتابَيْهِما.

وهو إلزامٌ لا يلزمهما أصلًا، وقد جاء الردّ على هذه الفكرة سريعًا، على يد الحاكم تلميذ الدارقطنيِّ، والبيهقي تلميذ تلميذه.

فقال الإمام أبو عبد الله الحاكم في صَدْر كتابه «المستدرك» عن البخاري ومسلم: «صَنَّفَا في صحيح الأخبار كتابَيْن مُهَذَّبَيْن، انتشرَ ذِكْرُهما في الأقطار، ولم يحكما ولا واحدٌ منهما أَنَّه لم يصحَّ مِن الحديث غيرُ ما خَرَّجَهُ»، ومِن ثَمَّ قال: «وقد سألني جماعةٌ مِن أعيان أهل العلم بهذه المدينة وغيرها أَنْ أجمعَ كتابًا يشتمل على الأحاديث المرويَّة بأسانيدَ يحتجُّ محمدُ بن إسماعيلَ، ومسلمُ بن الحَجَّاج بمثلها» قال: «وأنا أستعين الله على إخراج أحاديثَ رواتُها ثقاتٌ قد احتجَّ بمثلها الشيخان رضي الله عنهما، أو أحدهما»([1]).

وكلام الحاكم صريحٌ في أَنَّهما لم يُلْزِما أنفسهما إخراج جميع ما صحَّ مِن الحديث، وهذا ما قاله البيهقي وابن الصلاح وغيرهما([2]).

وما ذهبَ إليه هؤلاء الأعلام؛ قد سبقهم إلى التصريح به البخاريُّ ومسلمٌ صراحةً.

فأما البخاريُّ:

فقد سمَّى كتابه: «الجامع الصحيح المُسْنَد المختصر مِن أمور رسولِ الله r وسُنَنِه وأَيَّامِه».

وهذا هو الاسم الأشهر والأكثر تداولًا، والأوفر حظًّا مِن الدِّقة والإتقان في ضبطه ونَقْلِه، وما عدا ذلك فقد وقعَ فيه التصرُّف بشكلٍ أو بآخر.

وبه قال ابن حجر في «تغليق التعليق»([3])، والسيوطي في «التوشيح»([4]).

وهو الاسم المُقَيَّد بخطوط نُسَّاخ «الصحيح» وأيديهم.

وكذا وردَ مُقَيَّدًا على ظهرية نسخة عبد القادر الفاسي([5]) التي كتبها بخطِّه مِن أصلٍ صحيحٍ منقولٍ مِن خط أبي عمران ابن سعادة، مخطوطة الزاوية الحمزاوية بالمغرب (رقم/398):

وقال الفاسي في آخر الجزء الأول:

وسَمَّاهُ الكلاباذيُّ([6])، وابنُ عطية([7])، وابنُ خيرٍ([8])، والنوويُّ([9])، وابن الصلاح([10])، والعيني([11]): «الجامع المُسْنَد الصحيح المختصر مِن أُمور رسولِ اللهِ r وسُنَنِه وأَيَّامِه»، أي مثل التسمية الأولى؛ لكن بتقديم لفظ «المُسْنَد» على لفظ «الصحيح». وللكلام على هذا كله موضعٌ آخر([12]).

والمقصود هنا الإشارة لثبوت لفظة «المختصر» في تسمية البخاري، وإرادته الاختصار في كتابه، وهذا لا يُنَازَع فيه.

وأما مسلمٌ:

فقد قال بوضوحٍ تامٍّ أيضًا: «ليس كلُّ شيءٍ عندي صحيحٍ وَضَعْتُهُ ها هنا»([13]).

فهذا كاشف عن أمرين: أولهما: إرادة البخاري ومسلم اختصار كتابَيْهِما.

وثانيهما: عدم قبول فكرة «الإلزامات» الواردة في كلام الدارقطني، ومِن ثَمَّ لم تجد لها رواجًا لدى أقرب الناس إليه، وهو تلميذه كما أسلفناه.

لكن كشف لنا الإمام الدارقطنيُّ النقابَ عن بحثٍ علميٍّ رائعٍ، وشجَّعَ بكتابه هذا على مزيدٍ مِن البحث والتنقيب عن بقية الأحاديث الصحيحة. فهو وإِنْ لم تجد فكرته في إلزام البخاري ومسلم رواجًا؛ لكنّها أفادتْ في أبوابٍ أخرى غاية في الأهمية.

وهنا وقفَ بحثُ الدارقطنيِّ وغيره مِن أهل العلم الكرام، وأئمة المسلمين العظام؛ لأنَّه لم يكن سوى بحثٍ نبيل الغرض، صادق الطويّة، قائمٍ على مودة ومحبّة ونصيحةٍ لأئمة المسلمين وعامّتهم، فشكر الله لجميع أئمتنا، وأجزل لهم العطاء والمثوبة.

لكن رأى الطاعنون في اسم الدارقطنيِّ فرصة سانحةً للنَّيْل مِن البخاري والدارقطني معًا، وصار الكلام ليل نهار عن «استدراكات الدارقطني» «انتقادات الدارقطني» «إلزامات الدارقطني»، وأخفى الطاعنون رغبة البخاري في اختصار كتابه، كما أَخْفَوا مِن قبلُ قَصْدَ الدارقطنيِّ بكتابه، وأَنَّه لم يؤلِّفه لهدم البخاري كما يُريدون، وإِنَّما أفاد بتأليفه التأكيد والتثبيت والتصحيح والإقرار بإمامة البخاري، بعدما وجدَ الدارقطنيُّ في البخاريِّ وكتابه خيرَ أساسٍ للبناء والزيادة عليه، ولا يستدرِك عليه إِلَّا وهو يجده كذلك.

فشتَّان بين قصد الدارقطني النبيل، وبين ما يرمي إليه الطاعنون في البخاري والدارقطني معًا!.

فالاحتجاج بكلام الدارقطني أو صنيعه هذا بعد ذلك؛ للطعن في البخاري، يُعَدُّ عبثًا مِن قائله إِنْ كان جاهلًا، وإِلَّا فهو يكشف عن سوء طويَّة الطاعن مع فقدانه أمانة العلم والبحث.

وهنا أمرٌ آخر: وهو اقتصار عمل الدارقطني في عمومه وجُمْلَتِه على قضايا الرواة والأسانيد، ومفاد هذا موافقته للبخاري وغيره على قبول هذه المتون.

والدارقطني إمامٌ مُحَدِّثٌ فقيهٌ عالمٌ خبيرٌ، وهذا يزيد مِن قيمة وأهمية هذه الموافقة المشار إليها، على تلك المتون.

مثالٌ آخر: انتقاد الكتاب بما ليس فيه.

وعلى سبيل المثال لا الحصر: الحديث السابع مِن الأحاديث التي تتبَّعها الدَّارَقُطْنِيُّ أيضًا في كتابه «التَّتَبُّع» على البخاري، فقد قال الدَّارَقُطْنِيُّ: «وأخرج البخاريُّ حديثَ ابنِ عُيَيْنَة عن الزهري عن عبيد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد وشِبْل، ولم يُتَابَع ابن عُيَيْنَة على (شِبْلٍ). خالفه مالكٌ ومعمر ويونس وابن أبي ذئب والليث وصالح بن كيسان وابن جُرَيج وغيرهم»([14]).

فالدارقطني ينتقد وجود «شِبْلٍ» في أسانيد، ويرى أنَّ روايته عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما.

والذي في «صحيح البخاري» موافقٌ لما أراده الدارقطني وقَرَّرَه، لا اختلاف، هكذا هو في مطبوع «الصحيح»([15]) بدون «شبل»، ولم يَرِد كذلك في الأصول الخطية النفيسة مِن «صحيح البخاري» مثل مخطوطة خزانة «مراد ملا» (رقم/577) [ق/ 89/ أ]

وهي مِن رواية أبي ذَرٍّ الهروي عن مشايخه الثلاثة عن الفَرَبْرِيِّ عن البخاريِّ، ليس فيه «شبل».

وكذلك عزاه البيهقي للبخاريِّ «دون ذِكْر شِبْل»([16]).

وقد ذكَرَ البخاريُّ الخلافَ في الحديث في «التاريخ»([17]) كما ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ في «العلل»([18]).

وما ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وصحَّحَه؛ قد سَبَقَه إليه البخاريُّ.

وبناءً عليه: فما نَسَبَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ للبخاريِّ لا تصح نِسْبَته إليه.

ولا يصح والحالة هذه أنْ يُثار مثل هذا، أو يُنتَقَد به البخاري لمجرَّد وجوده في كلام الدارقطني، لعدم صحته عن البخاري أصلًا، بغضِّ النظر عن سبب كلام الدارقطني؛ فهذا له موضع آخر للكلام عليه.

والبخاري ليس معصومًا كما أَنَّ الدارقطني ليس معصومًا؛ لكن لا يصح إثبات شيء لإنسانٍ لم يثبت عنه على الحقيقة.

وهذا كله يكشف عن أمرين:

أولهما: عدم صحة انتقاد البخاري بما لم يصدر عنه أصلًا.

وثانيهما: الوقوف على حقيقة كثيرٍ ممَّا يتداوله كارهو البخاري وينشرونه اليوم؛ فليست سوى أوهام وقعتْ في بعض الكتب، لا يُسأل عنها البخاري، ولم يسمع بها أصلًا.

ثم هي أمورٌ تتصل بالأسانيد والرواة، لا تأثير لها على جُمْلَة متونه وألفاظه.

التدقيق اللغوي:

ويؤيِّد ما ذكرتُه آنفًا ويُؤَكِّده: مرور «صحيح البخاري» بتدقيقٍ دائمٍ في ألفاظه ومعانيه، على أيدي مُحَدِّثين وفقهاء ولُغَويين، لهم صيت ذائع في الأمصار، ويكفي الإشارة لتدقيق الخطَّابي فيه، وتناوله له بالشرح في كتابه «أعلام الحديث»، وذكرَ في مقدمته([19]) أنَّ جماعةً سألوه أنْ يشرح لهم الكتاب، قال: «فتوقَّفْتُ إذ ذاك عن الإجابة إلى ما التمسوه مِن ذلك، إذ كنتُ أستصعبُ الخُطَّة، وأستبعد فيه الشُّقَّة؛ لجلالة شأن هذا الكتاب؛ فإنه كما قيل: كلُّ الصيدِ في جوفِ الفَرَا»، إلى أنْ قال: «وغرضُ صاحبِ هذا الكتاب([20]): إنّما هو ذِكْرُ ما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن حديثٍ في جليلٍ مِن العلم أو دقيقٍ» إلى أن قال الخطابيُّ واصفًا «صحيح البخاري»: «فأصبحَ هذا الكتاب كَنْزًا للدِّين، ورِكَازًا للعلوم، وصار بجودةِ نَقْدِه، وشِدَّةِ سَبْكِه؛ حَكَمًا بين الأمة فيما يُراد أنْ يُعْلَم مِن صحيح الحديث وسَقِيمه، وفيما يجب أنْ يُعْتَمد ويُعَوَّل عليه منه». ويكأَنَّ الخطابيّ كان يرى ما نحن فيه هذه الأيام عندما تَكَلَّم بعد ذلك بقليل عن أُنَاسٍ كما قال: «قد تَعَلَّقُوا بأحاديث مِن مُتَشَابه العِلْم قد رواها جامعُ الكتاب وصحَّحها مِن طريق السَّند والنَّقْل، لا يكاد يعرف عوامُّ رواة الحديث وُجوهها ومعانيها، إنّما يعرف تأويلَها الخواصُّ منهم، الراسخون في العلم، المُتَحَقِّقُون به، فهم لا يزالون يعترضون بها عوامَّ أهلِ الحديث، والرَّجِل([21]) والضَّعَفَةِ منهم، فإذا لم يجدوا عندهم عِلْمًا بها ومعرفةً بوجوهها؛ اتخذوهم سُلَّمًا إلى ما يريدون مِن ثَلْب جماعةِ أهل الحديث، والوقيعةِ فيهم، ورموهم عند ذلك بالجهل وسوء الفهم، وزعموا أنَّهم مقلِّدون يَرْوونَ ما لا يَدْرون، وإذا سُئِلوا عنه وعن معانيه يَنْقَطِعون، ويُسَمُّونهم – مِن أجل ذلك – حَمَّالَةَ الحطبِ، وزامِلَ الأسفارِ ونحوهما مِن ذميم الأسماء والألقاب، فكم غُمْر يَغْتَرُّ بهم مِن الأغمار والأحداثِ الذين لم يخدموا هذا الشأن ولم يطلبوه حقَّ طَلَبِه، ولم يَعَضُّوا في علمه بناجذٍ فيصير ذلك سببًا لرغبتهم عن السُّنن وزهدهم فيها، فيخرج كثيرٌ مِن أمر الدِّين عن أيديهم، وذلك بتَسْوِيلِ الشيطان لهم ولطيف مكيدته فيهم» إلخ.

وللصَّغَانِيِّ وغيره مِن اللُّغَويين والفقهاء جهودٌ مشكورةٌ مشهورةٌ حول «أيضًا» أيضًا.

ويكفي الإشارة لهذا «المجمع العلمي» الحافل بأئمة العلم والفضل، عند قراءة الإمام اليُونِينِيِّ نُسْخَتَه الشهيرة مِن «صحيح البخاري»، بحضرة سيبويه عصره الإمام ابن مالكٍ، الذي دَقَّقَ «الصحيح» لفظةً لفظةً، ومعنًى معنًى، وكان ذلك سببًا في تأليف كتابه الشهير المتداول «شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح»، أَبَانَ فيه عن عِلْمٍ جَمٍّ، وكشف فيه عن معنى ما يُمكن أنْ يُشكل على قارئه.

ثم يأتي مَن لا يعرف يمينه من شماله؛ فيتجاهل تدقيق أئمة الفقه واللُّغة والحديث والإسلام، أمثال الخطابي والصَّغَانِيِّ وابنِ مالكٍ وغيرهم، مُدَّعِيًا لنفسِه، داعيًا غيره لتصديقه؛ فأيّ عَقْلٍ وأيّ تصديقٍ؟ ويكأنَّها الجهالة تقذفنا بفلذات جهلها!.

فالله الهادي لأقوم الطُّرق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

=================================

([1]) «المستدرك» (1/ 164 – 165، ط: المنهاج القويم).

([2]) ينظر: «النكت على مقدمة ابن الصلاح» للزركشي (1/ 172 – 178، ط: أضواء السلف)، «الشذا الفياح مِن علوم ابن الصلاح» للأبناسي (1/ 88، بتحقيقي).

([3]) «تغليق التعليق» (2/ 5).

([4]) «التوشيح شرح الجامع الصحيح» (1/ 43). وينظر ما أسلفناه في آخر «المبحث» السابق بشأن مقدمته.

([5]) مِن كبار الشيوخ في عصره؛ كما قاله الزركلي في «الأعلام» (4/ 41).

([6]) «رجاء البخاري = الهداية» (1/ 23).

([7]) «فهرس ابن عطية» (ص/ 64).

([8]) «فهرسة ابن خير» (ص/131).

([9]) «التلخيص شرح الجامع الصحيح للبخاري» (1/ 213)، «تهذيب الأسماء واللغات» (1/ 73).

([10]) «مقدمة ابن الصلاح» (ص/ 167) ط: بنت الشاطئ، «الشذا الفياح مِن علوم ابن الصلاح» (1/94) بتحقيقي.

([11]) «عمدة القاري شرح صحيح البخاري» (1/ 5).

([12]) ومِمَّا صدرَ لي أخيرًا له علاقة بهذا الأمر: «تحرير عنوان (صحيح البخاري) عند ابن حجر العسقلاني» (ص/59 – 117)، الناشر: مجلة التراث النبوي، العدد السادس، السنة الثالثة، المجلد الثاني، رجب 1441، الموافق مارس 2020م.

([13]) «صحيح مسلم» (404).

([14]) «التتبُّع» للدارقطني (ص/129 – 130).

([15]) «صحيح البخاري» الطبعة السلطانية (3/ 150).

([16]) «معرفة السُّنَن والآثار» (12/ 289 رقم 16717).

([17]) «التاريخ الكبير» (5/ 19 – 21).

([18]) «العلل» (2122).

([19]) «أعلام الحديث» (1/ 101).

([20]) يعني: البخاري.

([21]) الذي لا ناقة له، ومكانٌ رَجِيلٌ: بعيدٌ، وكلامٌ رَجِيلٌ: أي مُرْتَجَلٌ. والمقصود الإشارة لِقِلَّة حِيلتِه وضَعْفِه في العلم، وعدم بَصَرِه بمعاني الروايات. وينظر: «تاج العروس» (29/44، 45).