النشر الرقمي باعتماد المعهد
السلسلة الثقافية (35)
____________________________
مجالس العلماء
في مَجْلِسِ أبِي فِهْر
محمود محمد شاكر
*
للأستاذ الدكتور
كمال عبد الباقي لاشين
كلية اللغة العربية بالقاهرة
جامعة الأزهر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
لمجالس العلم في حضارتنا الإسلامية تاريخٌ طويلٌ ، حافلٌ ، كان من ثمارِه كثيرٌ من كتب الأمالي ، والمجالس في أبواب العلم المختلفة ، منها في مجال الأدب ، واللغة : مجالسُ ثعلب ، وأمالي القالي ، وأمالي الزجَّاجي ، وأمالي اليزِيدِيّ ، وأمالي ابنِ الشجَرِيّ ، وأمالي المرزُوقي ، وأمالي الشريف المرْتَضى ، وغيرها كثيرٌ . وما لم يدَوَّن مما قيل في تلك المجالس فنون العلم أكثرُ مما دُوِّنَ بكثير ، وما لم يصلنا من ذلك لضياعِه أضعافُ ما وصلنا منه .
وإذا ذُكِرَت مجالس العلم ، والعلماء في عصرنا الحديثِ ، فإن مجلس شيخ العربية : أبي فهر محمود محمد شاكر – طيب الله ثراه- يأتِي منها في الصدارة ، ولهُ عليهَا مَزِيَّة . كان مجلس الشيخ أشْبَهَ بجامعة مفتوحة يفِدُ إليها من يَفِدُ من طلاب العلم من بلاد المغرب العربي ، وبلاد الشام ، والعراق ، وجزيرة العرب ، بالإضافة إلى من يفِدُ من مصر . وكان بيْتُ الشيخ ، وعقله ، وقلبه يتَّسع لهؤلاء جميعا ، وفيما كتب هؤلاء من عقل الرجل ، وعلمِه شيء غيرُ قليل .. وهذا كله من عملِ رجلٍ واحدٍ جِدُّ كثير .
وأبو فهر يقول عن نفسه ، وعن منهجه العلمي : ” ومنهَجِي مبْثُوثٌ في كل ما نشرْتُ من الكتب ، وفي كل ما كتبتُه بيدِي ، وفي كلِّ ما أرْشَدْتُ إليه مَن اسْتَرْشَدَنِي من طلبةِ العلمِ . وهذا حسبي ” . [برنامج طبقات فحول الشعراء : 11] .
فهو يَعُدُّ ما قَالَه لقُصَّاد مجالسِه العلمية ، وإرشادُه لمن اسْتَرْشَدُه من طلبة العلم – الضِّلْعَ الثالث من أضلاع عطائه العلمي الغزير ، وإنه لكذلك .
ولو أمكنَ جمعُ هذا كله تحت عنوان ( مجالس أبي فهر ) ، لكان شيئا كثيرا ينَافِسُ ما بأيدينا من العلم في كتب المجالس ، والإملاءات القديمة ، وهي من مفاخر علم هذه الأمة ، ومن أقوَى الأدلة على حيويَّةِ العقل الإسلامي . إنَّ عقْلَ أبي فهرٍ ، وعلمَه حاضران بقوةٍ فيما كتبه بيديه ، وفي كثيرٍ من الكتب ، والبحوث ، والدراسات التي استشارَه فيها أصحابُها ، وانتفعوا فيها بعقله ، وعلمه . وما أكثرها .
وكذلك ( تَحْشياتُ ) أبي فهر الكثيرة في حواشي الكتب ، وهوامشها . وبخاصة النسخة الأقدم من كل كتاب تعددت طبعاتُه ، التي كان يسمِّيها : ( النسخة الأم ) ، أو (النسخة الإمَام) وإليها كان مفْزَعُه كلما دَعَت الضرورة ، وما أكثر ما رأيت هذا وأنا في مجلسه . وإذا أمكن جمع هذه التحشيات الكثيرة بما اشتملت عليه من فوائد ،ونوادر تحت عنوان ( حواشي أبي فهر) لكانت شيئا كثيرا أيضا .
2
وفي صيفِ عام ( 1979م ) ذهبتُ ، أول مرة إلى بيت شيخنا أبي فهر ، برفقة زميل دراستي : رجب إبراهيم خليل – رحمه الله- . كان أبو فهر يومها شيخًا عالِيَ السن ، جليلَ القدر ذائعَ الصيت ، مِلْءَ السمْعِ والبصر ، مقصود المجلسِ من طوائف من أهل العلم . وكنت أنا ورجب شابَّيْن ، ناشِئَيْن ، شادِيَيْن في طلب العلم ، لم نحْصُلْ منه على كبيرٍ ، يعَوَّلُ عليهِ . تخَرَّجْنَا للتَّو من كلية اللغة العربية بالقاهرة ، وخطونا أولَى خطواتِنا على طريقِ التعَلُّم الحَقّ .
كان الذي حبَّب إلينا الذهابَ إلى أبي فهر ، والتردُّد علي مجلسِه ، وألحَّ علينا في هذا كثيرا هو أستاذنَا ، وشيخُنا : الدكتور محمد أبو موسى – أطال الله النفع به ، وبعلمه.- وكان ممن حضر مجالس أبي فهر ، وعرف قدره ، ومكانَه من العلم ، وهو عندي مِنْ أشْبَهِ الناس بأبي فهر، منْزَعًا في العلم ، وهِمَّةً في طلبِه . فالذي بين أبي موسى وأبي فهر شبيهٌ إلى حد كبيرٍ بالذي كان بين أبي فهر والرافعي- رحمه الله- . ودراسةُ تراث الرجلين حرِيٌّ بأن يكشف عن هذا .
والشيخ أبو موسى من كبار أساتذتنا في كلية اللغة العربية بالقاهرة . ولا تطيبُ نفسي بأن أقول لأحد : أستاذي إلا لرجلين : أبي فهر ، وأبي موسى . أما الذين تعلمتُ منهم، ونفعني الله بعلمهم فكثيرون . تعهَّدَنَا الشيخُ أبو موسى في العلم فأحْسَنَ تعهُّدَنَا ، ولأنه كان يحب لنبتته التي غرَسَها بيديه أن تزداد نماءً ألَحَّ علينا في الذهاب إلى مجلس أبي فهر المرة بعد المرة ، ونحن نعِدُه ، ثم لا نفِي .
ثم ذهبنا . وكان من أكبر دوَافِعِي إلى الذهاب يومئذ حَيائِي من الشيخ أبي موسي ، وكراهيتي مخالفَتَه .أما دواعِي التسْوِيف ، والترَدُّد فإني – بالإضافة إلى ما طُبِعَت عليه نفسي من الحياء ، والتردد – كنتُ أستصْغِرُ نفسي عن أن أكون من رُوَّادِ مجلس أبي فهر . وأقول لنفسي : شابٌّ غُفْل ، مبتدئ في العلم بلا وجَاهَة في الناس ، ولا رسوخِ قدَمٍ في العلم ما مكان مثله في مجلس علامة كبير كأبي فهر ، وما جلوسُه بين الكبار الذين يحضرون مجلسَه ؟!.
3
كان أولُ لقاءٍ لنا بالشيخ عجبًا منَ العجَبِ : أدْنَانَا وهو لا يعرفنا ، وقرَّبَ مجلسَنا ، وآنسَنَا ببِشْرِه وبشَاشَتِه ، وبسَطَ لنَا منْ جُودِ وجهِه ، ولسانِه ما لم نكن نطمعُ في القليل منه . ثم زادَ ، فأهدانا نسخًا من بعضِ كتبِه . وحين همَمْنا بالانصراف تقَدَّمَنا إلى المصعد ، ففتحَ لنا بابَه ، وسلمْنَا ، ونزلْنا . وبقيتْ هذه عادتُه معنَا ، ومع غيرنا من قُصَّاد مجلسه.
رجعنا يومها: أنا ورجب بوجهٍ غيرِ الوجهِ الذي ذهبنَا به ، لقِينَا الشيخ بعزم ، وعدنا من عنده بعزم غير الذي لقيناه به .ولستُ أغْلُو إذا قلتُ : إنا خُلِقْنا بلقاء الشيخ في ذلك اليوم خَلْقًا جديدا . رجعنا إلى البيت الذي كنا نسكنه معا طَرِبَيْن طرَبَ الطيرِ في البكُور، نَشْوانَين من غيرِ سُكْرٍ . نحدِّث مَن لقيناه من أترابِنَا ، بأنا لقينا الشيخ . ونقول : قال لنا الشيخ ، وقلنا للشيخ ! . كان ذلك اللقاء من جميلِ صنْعِ الله بنا ، وفيه سرٌّ لم أتبين كنْهَه إلى الآن . وقد حكيتُ جانبا من ذلك اللقاء في مقدمة كتابي : (المتنبي في مصر) ، وهذا الكتاب نفسه إنما هو حاشية مطولة على عبارة وردت في كتاب الشيخ عن المتنبي .
شرعتُ أنا ورجب من ليلتِها في قراءة كتب الشيخ الثلاثة التي أهدَانَاهَا ، وهي : ( طبقات فحول الشعراء) ، و(المتنبي) ، و(أباطيل وأسمار) . وكانت أولَ مرة نقرأ فيها كتابا تامًّا ، نقرؤه للتعلّم الحقّ لا للامتحان ، وما أبعد البون بين القراءتين . كنا في الجامعة نقرأ في الأعمّ ، الأغلب بعضا من الكتاب، قليلا ما كنا نقرؤه أو كثيرا ، ولا نقرأ الكتاب كاملا . ونقرأ ما نقرأ لاجتياز الامتحَان في آخر العام ، لا لذات العلم ، كنا أسرى المذكرات التي يكتبها لنا الأساتذة . وتلك من جنايات التعليم على (الطريقة الجامعية) . وهو أمر لم أتبينه إلا بعد حين من الزمن. . ومن العجيب أنني أنا وغيري من أساتذة الجامعة مسُوقِينَ سوْقًا إلى الآن إلى تلك الطريقة الفاسدة ، دائرُون في فلكها دوَرَان الفَلَك المسيَّر !.
4
وكانَ يكونُ في مجلسِ أبي فهر الكبارُ من أهل العلم ، والأدب يومها : مِن مثل الدكتور : حسين نصار ، والدكتور: محمد أبو موسى ، والدكتور : محمود الطناحي ، والأستاذ : يحيى حقي ، ومَن في طبقتهم . ويكون فيه أيضا الصغارُ من طلبة العلم من أمثالي أنا ، ورجب يومئذ . وكان الشيخ أنشط ما يكون للحديث ، وأكثرَ ما يكون طلاقةً ، وانطلاقا ، وتحَدُّرًا في القول إذا كان في مجلسِه أمثالُ هؤلاء الكبار . فإذا ما خلا مجلسُه منهم – وقليلا ما كان يخلو- كان الصمتُ هو الأغلبَ عليه ، إلا أن يستفتح بالحديث ؛ فيتحدث على مقدارِ الحاجة ، أو يُسأل فيجيب على قدر سؤال السائل . وكنتُ أشفق على الشيخ إذا لم يكن في مجلسه إلا الصغار من أمثالي . لكنه كان يَقْسِمُ للكبار ، وللصغار في مجلسِه بالسوية ، وهذه من مناقب أبي فهر ، ومناقبِ مجلسِه وما كان أكثرها.
كان رجب إبراهيم شديدَ التسليم لأبي فهر في كل ما يقوله ، أو يكتبه ، أو يفعلُه . وكنت أتوَقَّفُ أحيانا تَوَقُّفَ المُتَبَيِّن لا توقف المخالف ، المعترِض في بعض ما كنتُ أسمعه من الشيخ ، أو أقرؤه له . وكثيرا ما كنا نختلف أنا ورجب ، و نتراجع القولَ في هذا ، لم يكن هذا مما خصَصتُ به أبا فهر ، فهو من جملي طباعي المتأصلة . فأنا لا أُسْلِمُ قِيَادَ فكْرِي لأحد من الناس كائنا من كان إلا عن قناعة،. لكن هذا لم يَحُل بيني ، وبين الانتفاع بما سمعتُه من الشيخ، أو بما قرأته من كتبه . ومن الإنصاف أن أقول : إن كثيرا مما كنتُ توقفتُ فيه بانَ لي فيه مع الأيام صوابُ الشيخ، وبعدُ نظره .
وأبو فهر كما عرفتُه كان من أذكياء الناس ، وممَّنْ يُصِيب بالظن ما لا يصيبُه كثيرون غيره إلا بالعيان ، والمشاهدة . فهو كما قال أوس بن حجر :
الألْمَعِيُّ الذِي يظُنُّ بكَ الظنّ
كأنْ قدْ رأَى ، وقدْ سَمِعَا .
وكثيرٌ من آرائه التي كانت موضع خلاف ، وجدلٍ ، ومراجَعَة في حياته بَانَ مع الأيام أنه كان يرى فيها ما لم يره غيره ، ويبصر بظهر غيب ما خفي على كثيرين سواه .
والذي نفعني الله به في مجالس أبي فهر التي ترددتُ عليها نحوا من سبع سنوات – كثيرٌ بحمد الله ، وما نفعني الله به من قراءة كتبه أكثرُ . وكثيرا ما كنتُ أعرض ما أقرؤُه له على ما كنتُ سمعتُه منه ، فأرى الرجل في الحالتين هو هو لا يتَلَوَّن، ولا يختلُّ في يده ميزانُه :
كان يَكْرَهُ أن يُسمَّى علمُ العرب ، والمسلمين (تراثا ) ، ويبغض هذه اللفظة بغضا شديدا ، وينفر منها إذا قيلَت في مجلسه . ، ويقولُ : هذه كلمةٌ سخيفَة . ويستدِلُّ في جملة ما يستدل به : بأن طبقات أهل العلم ، التي توالت في تاريخ العلم في هذه الأمة لم يُسَمِّ أحدٌ منهم ما تقدَّمَه ، أو سبقه من العلم تراثا ، ولا نعته بهذا النعت . بل تلَقَّفُوا العلمَ على أنه ( بناءٌ ) كلٌّ جيلٍ يضعُ في البناء لبِنَةً ، أو لبِنَاتٍ . أو (نَسِيجٌ) كل عصرٍ ينسج فيه خيطا ، أو خيوطا .
وقد طلبتُ هذا الذي كنتُ سمعتُه منه في بعضِ ما كتبَ ، فوجدتُه يقول- وهو يذكر ناشئة الشعراء ، والنقاد الذين توجه إليهم بحديثه – : ” ..فإن مآل هذا الأمر كله إليهم ؛ فهم ورثة هذه اللغة بمجدها ، وشرَفِها ، وجمالها ، وفنها . لا ينبغي أن يضللهم عنها ، أو يُبعثر إليها خطاهم مَن عمَد إلى إرْث آبائهم من لدن إبراهيم ، وإسماعيل عليهما السلام إلى يوم الناس هذا ، فسماه لهم تراثًا قديما ؛ ليجعله عندهم أثرًا من الآثار البالية محفوظا في متاحف القرون البائدة” .
كانَ هذَا من جملةِ ما توقفتُ فيه أوَّلَ الأمرِ حينَ سمعتُه من أبي فهر ، وكنتُ أقول لرجب : وأيُّ شيءٍ في أن يُسمى العلم الذي آل إلينا من أسلافنا الأولين تراثا ، وللغة . واللغة لا تأْبَاهُ ؟. والعلم في كل أمة من الأمم ، وفي كل عصر من العصور إنما هو ميراث ، وكسْبٍ : ما ورثاه من أسلافنا ؛ فهو (تراثٌ )، وما أدركناه بأنفسنا فهو (كسبٌ) . .
وحُجَّةُ الشيخِ – رحمه الله – كما ترى في كلامه السابق : أن هذا اللفظ (تراث) إذا طالَ على الناسِ استعمالُها ، وطالَ إلْفُهُم لها هانَ عليهم أمرُ ذلك العلم يوما ما ، و جاء من بعدُ أجيالٌ تنظرُ إلى هذا العلمِ كلِّه كمَا يَنْظُر إلى المُومْيَاواتِ القديمةِ ، والأنصابِ الحَجَرِيَّة ، كل حظِّنا منها النظر ، وأن يقال فيه : كانَ ، وكانَ . وكان يقولُ ما معناه : إنَّ هذَا العلمَ هوَ نحْنُ ، ونحْنُ هوَ ، نَحْيَا بهِ ، ولهُ ، ويَحْيَا فينَا ، وبِنَا ، ومَن راجع كتابات الشيخِ علِمَ يقينا أنه كان يأخذُ نفسه في العلمَ بهذا قبل أن يطالب به غيرَه . .
وقد وقع الذي تخوَّف منه الشيخُ ، وجاء ما هوَ شرٌّ منهُ ، وظهر في الأمةِ اليوم من يرَى هذا العلمَ كله أدْنَى قدرًا من المومياواتِ البالية ، والأنصابِ الحجريةِ المصورَةِ ، ويدعو إلى قطعِ الصلةِ مع هذا الموروثِ كلِّه وبتنا نسمع هذا من أساتذة جامعيين ! .,وظهرت في الدراساتِ الأدبيةِ ، والنقديةِ ثنائيَّاتٌ : ” التراث والمعاصرة ” ، و”القديم والجديد ” ،. وبعضُ هذه الدراسات تصُبُّ في معنى : أن هذا التراث قد ذهبَ زمانُه ، وزمان أهله ، وتخطَّتهُ ، وتخطتهم الأيام ، وقلت حاجتُنا إليه ، أو قُلْ : لم تعُدْ لنا به حاجة . فحين ظهرت الدعوة إلى الجديد ، والتجديد في الأدب ، والنقد ، وفي غيرهما ، واسْتَعْلَن أمرها ، وكثر أنصارُها ، وجَرَت ريحُها رُخَاءً ، نَبَتَتْ نابتَةٌ قفزت على علم العرب ، والمسلمين قفزًا ، وأشاحت بوجهها عنه جملة غيرَ مبَالِية به . ولا ريب في أن من أكبر أسباب ظهور هذه النابتة ما أشار إليه أبو فهر من أن إطلاق لفظة (التراث القديم ) على علم العرب والمسلمين كله ، وطولَ الإلف لما يَشِي به هذا اللفظ هو الذي هوَّن عند هؤلاء أمر هذا العلم الغزير كله .
كان أبو فهر كأنه يستشعر خطرَ نابتةِ الشرِّ هذه ، فكان يُطلِقُ فيهم لسانَه إذا جاء ذكرهم في مجلسه بما لا مزيد عليه . وحينَ سمعتُ عبارةَ ” القطيعة المعرفية” أوَّلَ مرةٍ من الدكتور صلاح فضل سنة 1990 م تقريبا رجعْتُ إلى ما كنتُ توقفتُ أول الأمر في قبوله أيضا مِن حدَّةِ أبي فهر في حديثه عن هذه الفئِة من أهل التجديد ، وإطلاقِهِ لسانَه فيهم . وعلمتُ أن الرجل كان يرى بثَاقِبِ الظنِّ من حيثُ لا أرَى أنا ، وغيري ، وأن توَقُّفِى يومئذٍ كان توقفَ الساذِجِ ، الذي غلَّبَ حسنَ الظنِّ ، وأضاعَ النظرَ في العواقبِ
5
وكان الشيخ يطلق لسانَه أيضا بما لا مزيد عليه ، إذا ذُكِرَ عنده الاستشراق ، والمستشرقون ، ومَا جاءُوا به من مناهج مستحدثة في التحقيق ، والتأليف العلميين . أو إذا أثنى مُثْنٍ على جهودهم في نشر ما نشروه من التراث العربي ، والإسلامي . وكان في هذه الحالة أحَدَّ ما يكونُ نَفْسًا ، وأعنَفَ ما يكونُ منْطِقًا . وكان هذا أيضا مما لم يستبِن لي وجهُه أولَ الأمر.
وهذا الرأي ظاهر جدا فيما كتبه الشيخ في كتاب : ( برنامج طبقات فحول الشعراء ) ، ردا على الدكتور على جواد الطاهر في دفاعه عن المستشرق ( يوسف هِلْ ) . يقول أبو فهر : ” وقبلَ كلِّ شيءٍ ، فأنا لم أبلغ من السذاجة ، والغفلة ، وطيب النفس مبلغا يحملني على أن أعتقد – مغرورا بما اعتقد – أن فتى أعجميًّا ، غريبَ الوجه ، واليدِ ، واللسانِ عن العربية ، يدخل في العشرين ، أو الخامسة والعشرين من عمره ” قسم اللغات الشرقية” في جامعة من جامعات الأعاجم .
فيبتدِئُ تعَلُّم ألف ، باء، تاء، ثاء …ويتلقى العربية نحوَها ، وصرفَها ، وبلاغَتها ، وشعرَها ، وسائرَ آدابها ، وتواريخِها من أعجميٍّ مثلِه ، وبلسانٍ غيرِ عربي …..ويقْضي في ذلك بضعَ سنوات قلائل ، ثم يتَخَرَّج لنا مُسْتشْرِقًا ( في اللسان العربي ، والتاريخ العربي ، والدين العربي ! ) ندِينُ له نحن العرب بالطاعة … = لم أبلغ من السذاجة أن أعتقد أن هذا ممكنٌ ، وإن كنت أعلم علمَ اليقين أن كثيرا من أهل جِلدَتِنا اليوم قد دَانُوا بذلك ، وجعلوا الأمر ممكنا كل الإمكان !“ .
[ البرنامج : 117] .
ويقول بعد هذا الكلام : ” بل أقول أيضا أنْ لوْ نشا ناشئ الفتيان منا على حُبِّ عربيتِه ، وعلى توقِيرِ تاريخِه ، وعلى الالتزام بمعرفةِ أمَّتِهِ ، وعلى الشموخ بنفسه عن الدنايا المُذلَّة ، والخضوع المُهِين للسَّادة ، وعلى حبِّ إتقان العمل .
وكان ذلك نهجَ مدارسنا ، وجامعاتنا ، وصحافتنا ، وكتبنا ، وبيوتنا منذ يولد المولود فينا ، كما هو نهجُ كلِّ بلدٍ أعجمي ، صارَ له السلطانُ علينا اليوم – لو كان ذلك لجاء هؤلاء المستشرقون جميعا هالِكُهُم ، وحَيَّهُم ؛ ليتعلموا على يد ” صاحب المطبعة ” منا – يقصد الناشر حسام الدين القدسي رحمه الله – ناهيك بالعالِم منا ، والإمام …” .
[ البرنامج : 117/118]
وهذان النصان فيهما جماعُ رأيِ أبي فهر في الاستشراق ، والمستشرقين ، وفيه أيضا بعضُ تفسيرٍ لموقفِه الحَادّ ، القاسي منهُ ، ومنهُم .
كان الشيخ يَسْتَخِفُّ بطريقة المستشرقين في تحقيق الكتب ، التي تقوم في جوهرها على المقابلة بين النسخ المخطوطة للكتاب الواحد ، وذِكْرِ ما بينها من فوارق لفظية ، والتكَثُّر من مثل هذا ، وملءِ الحواشي به . وعنده أن الطريقة الأمثل في تحقيق الكتب ، ونشرها هي : إخراج الكتاب على صورة أقرب إلى الصورة التي كان عليها يوم كتبَه مؤلفُه . كالذي فعله هو في كتاب ( طبقات فحول الشعراء ) لابن سلام ، وقد اضطر إلى شرح جانب من منهجه هذا في التحقيق في كتاب البرنامج .
وموضوع ( أبو فهر ، والاستشراق ) موضوعٌ كبير ، متشعبُ الجوانب ، يصعب الإلمام بأطرافه في صفحات معدوداتٍ كهذه . والذي يغلب على ظني أنه لو كانت الغالبية من علماء أمتنا آخذة بمناهج علمائنا الأولين ، بانيَةً على بنائهم كما يريد أبو فهر . ثم كتب المستشرقون ما كتبوا ، وقالوا في تراثنا ما قالوا – لما كان رأي أبي فهر فيهم كرأيه هذا ، ولا كانت حدته في الحديث عنهم كحدته هذه .
لكنه رأى غَلَبة مناهجِ المستشرقين تزداد يوما بعد يوم ، والإخلادَ إليها ، والاطمئنان لها في غيبة مناهج علماء الأمة يزداد ، فازْعَجَه هذا أيَّ إزعاج . كان يدرك أنه بعد مضي مدة ما من الزمن على الافتتان بمناهج الاستشراق سيأتي جيلٌ يستصغر مناهج العلم عند العرب والمسلمين كل الاستصغار ، ويهون عنده أن يُلقي بها وراء ظهره ، وهذا خلاف منهج الشيخ الذي عاش يؤسس له ، وينافح عنه ، وبالضدِّ من دعوته الأدبية التي أمضى عمره قابضا عليها بكلتا يديه .
6
وكان الشيخ يرى أن مما أدخَلَه علينا المستشرقُون ، فقبلناه على عِلَّاتِه التهويلُ بذكر المنهج ، والتبجُّح به وإن لم يكنْ ثمَّتَ منهجٌ على الحقيقة ، وكأن التهويل بذكر المنهج ، والتبجح به يصير بديلا عن المنهج نفسه ! . يقول في هذا :
” وقد ضَمَّنْتُ هذا البرنامج ما يكشف حقيقةَ منهجي في دراسة الكتب العربية ، مطبَّقا تطبيقا صحيحا في الكتاب الذي قرأته ، وشرحته ، ونشرته ( يعني : طبقات فحول الشعراء ) . ولأول مرة فسرت حقيقة عملي في ” دراسة أسانيد الكتب الأدبية ” كالأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ، وكالموشح لأبي عبيد الله محمد ابن عمران المرزباني . وهو أساسٌ. لكل دراسة لكتبنا الأدبية التي سارَتْ على النَّهْج الصحيح في إسناد الأخبار ، والآثار ، والأشعار .
لم أكتبه من قبل ؛ لأني لست ممن يتبجح ، ويتباهى بشيء فعَلَه . وكنتُ ، وما أزال أرى أن تطبيق المنهج خيرٌ ، وأمثلُ ، وأجدَى من وضع قواعد للحفظ ، لا يعرفُ مَن يحفظُها : كيف يطبِّقُها ؟ ! . ” .
[ البرنامج : 11]
أمَّا أن الشيخ لم يكن يتبجح بعملٍ عمله ، على عظم إبلائِه فيه ، فنَعَم . إلا أن يُضْطرَّ إلى هذا مكرهًا ، كما فعل في كتابه : برنامج طبقات فحول الشعراء . وقد رجعتُ إلى هذا الكتاب الآن ، فوجدتني قد كتبت على الصفحة الأولى منه ، بخط يدي : ” مهداة من الأستاذ الكبير : العلامة محمود محمد شاكر . الجمعة 26 من شوال 1400 هجرية . الموافق 5 سبتمبر 1980 م ” .
وأما أن للشيخ منهجًا عُرِف به في كل ما كتب تحقيقا ، أو تأليفا ، فنَعَم أيضًا . يعرف هذا من قرأ كتب الرجل بإنصاف ، وإنْعَامِ نظَر . وقد كنت كتبت قديما بحثا مختصرا بعنوان : ( مدخل إلى منهج محمود شاكر) ألمحْت فيه إلى أصول منهج أبي فهر . منهجه في التحقيق يدُل عليه كتاب : ( طبقات فحول الشعراء) ، ومنهجه في تذوُّق الشعر يدل عليه كتابه ( نمط صعب ، ونمط مخيف)
وقد استفدت من هذا الكتاب أيَّ استفادةٍ حين كتبت كتابي : ( تذوق الشعر : منهج ، وتطبيق ) . وأهديته إلى أبي فهر ، وقلت في الإهداء : ” كتب العتَّابيّ إلى أبي يوسف القاضي : أما بعد . فخَفِ الله الذي أنعمَ عليك بتلاوة كتابِه ، واحذر أن يكون لسانك عُدَّة لفتنة ، وعملُك رِدْءًا للمعتدين ؛ فإن أئمَّة الجَوْرِ إنما يكيدونَ الصالحين باستِصْحابِ أهل العلم [ طبقات الشعراء لابن المعتز : 262]. أهدي هذا الكتاب ، وهذه الكلماتِ النيِّرَات إلى روح رجل أحسبُه ممن أخذَ نفسه بها ، وحَمَلَ أثقالها : إلى روح أبي فهر : محمود محمد شاكر ، رحمه الله ، وغفر ” .
ومنهج الشيخ في دفع صولة العادي على تراث الأمة يدل عليه كتابه ( أباطيل ، وأسمار) ، وهكذا . وقوام منهجه ، وروحُه : الإخلاصُ ، الإتقانُ ، والدأبُ ، وحسنُ التأتي ، والغيرةُ المحمودة على دين أمته ، وتاريخها ، وعلومها . وهذا من جملة ما يميز الرجل عن غيره ، ويُبْقي ذِكْرَه إلى الآن ..
. وكان من نتيجةِ الإخلاد إلى ما أذَاعَه الاستشراق فينا ، ومكَّنَتْ له ذيولُه من بني جِلدتنا : أن أصبح كثيرون منا يعتقدون خطأ أن المنهج كل المنهج موجود عند الغربيين ، وفيما كتبه المستشرقون ، وأن قدامى العلماء من العرب لا منهج عندهم . وأذكر أن أحد المفتونين بذكر المنهج إذا تكلم كان أكثر كلامه : المنهجَ . المنهجَ . وأين المنهجُ ؟ . أين المنهجُ . وكان ما يقوله مع هذا ، وما يكتبه أبعدَ ما يكون عن المنهج العلمي القويم ! .
7
وممَّا لمْ تَطِبْ به نفْسِي فيما سمعتُه من أبي فهر ، وفيما قرأتُه له : حدَّتُهُ ، وإطلاقُه لسانَهُ ، وعنفُه اللفظيُّ عند الخصَام ، والمخالفة . وما أكثر ما قلتُ لصديقي رجب : ليت أنَّ الشيخ تخَفَّفَ من تلك الحدة . أقول هذا ، وأنا لا أجهلُ الأسبابَ التي دفعت الرجل دفعًا إلى تلك الحدة . وهي أسباب عدة يعود بعضها إلى طبيعة الشيخ الشخصية ،وما جُبِل عليه . وقديما قالوا : ( وتَأْبَى الطبَاعُ علَى النَّاقِلِ) .وبعضها الآخر عائدٌ إلى ما لقيه في حياته من عَنَتٍ ، ومَشَاقّ ، ومنها ما يعود إلى طبيعة خصومِه الذين قَارَعَهم ، وإلى طبيعة القضايا التي وقعَتْ فيها ، وحولها الخصومات .
ولا تنس أن العصر الذي عاش فيه أبو فهر كان عصرا تغلب عليه الخصومات الأدبية ، والمعارك الأدبية ، وما أمر الرافعي ، والعقاد ، وغيرهما في هذا ببعيد و( معارك أبي فهر ، ومُخَاصَمَاتُه ) باب واسعٌ ، شائك يحتاج إلى من ينصف الرجلَ من خصومه ، وينصف منه خصومه أيضا . والذي تطمئن إليه النفس أن جل معارك أبي فهر لم تكنْ انتصارًا لنفسه هو ، أو غضبةً لها ، بقدر ما كانت انتصارا لأمته ، وعقيدتها ، وتاريخها ، وعلومها ، وآدابها ، وغضبةً لهذا كله.
وكان لأبي فهر ( مَزْبَلَةٌ) يُلقي فيها على مسامعنا ونحن في مجلسه أناسًا نعدُّهُم ، ويُعَدُّون لنا من الأخيار . وأكرَهُ أن أسمي لك الآن مَن سمعته يقول عنهم إذا ذكروا في مجلسه : ” في المزبلة ” . ثم دخلت أنا هذه المَزبلة يومًا ، فيمن دخلَ : كنتُ ممن حضر الاحتفالَ ببلُوغِ أبي فهر تَمَامَ السبعينَ مِن عمرِه . و قدْ اجتمعَ في بيتِ الشيخِ لهذا نَفرٌ مِنْ مرْتَادِي مجلسه ،.أذكرُ منهُم : الدكتور: حسين نصار ، والأديب : يحيى حقي ، والأستاذ : مَانِع العُتَيْبَة ، والدكتور: محمود الطَّنَاحي ، والأستاذ : الحسَّانِي حسَن عبد الله ، والأستاذ : أيمن فؤاد السيد ، والأستاذ : عبد الرحمن شاكر ( ابن أخي أبي فهر) . وكنتُ أنَا ، والمرحوم : رجب إبراهيم خليل فيمن حضر ، وكنا يومها أصغرِ الحاضرينَ سِنًّا ، وأخْفَاهُم في الناسِ ذِكْرًا .
في ذلكَ اليومِ فَارَقْتُ تَهَيُّبِي ، الذي هو مِن جُمْلَة طبَاعي المتَأَصِّلةِ ، وأنْشَدتُ الحاضرينَ أبياتا على الدالِ كنتُ أعدَدْتُها لتلكَ المناسبة . وكنتُ أعلمُ أنَّ المثلَ الأعْلَى في الشعرِ عند أبي فهرٍ ، هو شعرُ الجاهليةِ التي سبقت الإسلام ، وما يشبِهَهُ ممَّا جاءَ بعدَه من أشعارِ العرب ؛ لأنَّ هؤلاء لمْ يُعَبِّرُوا عن معانِي أنفسِهِم بصورةٍ تقريرِيَّةٍ ، ذهنيَّة ، إنمَا عَبَّرُوا عنهَا بنزْعَةٍ تصويريةٍ ، فنية ، من خلال صورٍ ممْتَدَّةٍ ، متمَاسِكَة البناءِ . نسجوا خيوطها الفنية ببراعةٍ ، ورسَمُوا قسماتِهَا من طبيعةِ بيئتِهِم المحيطةِ بهم، ومن ذاتِ أنفسِهِم التي هي نتاج تلك البيئةِ الشاعرةِ .
كالذي نرَاهُ في لوْحَة الطَّلَلِ ، ولوحةِ الرِّحْلَةِ ، ولوْحَة النَّاقَةِ ، ولوْحَةِ حُمُرِ الوحْشِ ، ولوْحَةِ ثوْرِ الوحْشِ ، ولوحَة المَهَا ، ولوحَة القَطَا ، ولوحة الذئابِ ، وغيرها . وكانَ توَاطُؤُهم علَى هذَا النهْجِ دليلاً عند الشيخ – وهمُ الأصلُ ، وبهِم الاقْتِدَاءُ – علَى أنَّهمْ إنما فَهِمُوا الشعرَ علَى أنهُ هذَا النَّمَط من التصويرِ المُمْتَدِّ .
فأحببتُ أنْ أحَاكِيَ ذلكَ النَّمَطَ الأوَّلَ محَاكَاةَ المُبْتَدِئِ ، الشَّادِي في الشعرِ – فَشَبَّهْتَ الشيخَ بفَرْع شجرة ، كريمٍ ، متَفَرِّدٍ : (هو : الفَيْنَان المُفْرَد ) ، ومَضَيْتُ في القصيدةِ أَصِفُ الفرْعَ ، وأنَا أُرِيدُ الشيخَ .وتلكَ القصيدةُ ممَّا أهْمَلْتُه مِن شعرِي الأول ؛ فَنُسِيَ ، ولمْ يبْقَ منها إلا مَا أذكرُه الآن . قلت :
نَبَتَّ بِوَادِينَا ، كَفَيْنَانَ مُفْــــــــــــرَدِِ
سَقَاهُ الثَّرَى عَلاًّ ، إذَا ظَمِئ الصَّدِي
وَألْقَتْ إليهِ الأرْضُ مَذْخُورَ رِزْقِهَا
ولَوَّجَهُ مِنْ وَافِدِ الشَّــرْقِ مُغْتَدِي
فَجَاءَ كمَا يهْوَى ، وزَادَ علَى الهَوَى
نَضَــارَةَ حُسْنٍ ، فِي نَفَاسَةِ مَحْتِدِ
فَيَا لكَ مِنْ فَرْعٍ فَرِيدٍ بِدَوْحَـــةٍ
بِهَا أدْعِيَاءُ ، كالهَشِــــيمِ المُبَدَّدِ ![1]
وذكَرْتُ في آخرِ القصيدةِ ولدَيْه : فهْرًا وزُلْفَى – وهمَا يومئذٍ قُرَّةُ عيْنَيْه ، ونُورُهُمَا ، فقلتُ :
فلا زلْتَ ترمِي في وجوهٍ كئيبَةٍ
ولا زلْتَ تهدي ذا ضلالٍ ، فيهتَدِي
ولاَ زِلْتَ مسرُورًا بزُلْفَى ، وفِهْرِهَا
تَتِمَّةُ آباءٍ كرامٍ ، أمَاجِــــــدِ
هذا ما أذكرُه من القصيدة الآنَ . ولعلِّى غيرْتُ في ألفاظِ هذه الأبياتِ عما كان ، فأنا استملي من ذاكرةِ شيخٍ قاربَ السبعين .
تَلَقَّى أكثرُ الحضُورِ قصيدتي بالقبولِ ، وأثْنَى عليهَا بعضُهُم باللسان ، وقد يكونُ السببُ في هذا أنهُم استحسنُوا أن يأتيَ مثلُ ذلك الشعرِ منْ شابٍ شادٍ ، مبتدئٍ في العلمِ والشعرِ ، والمبتدئُ تقَالُ عثراتُه ، ويُرْضَى قليله . أما أبو فهرٍ – رحمه الله – فإنه سكتَ ، وكأنهُ لم يسمعْ شيئًا , لا . بلْ سمعَ ، ولمْ يرْضَ ما سمِعَ !.
كانَ الشيخُ قدْ صَنَعَ طعَامًا لمنْ حَضَر . وأذكرُ الآنَ أنهُ لم يجْلِسْ إلى المائدة كما حلسَ غيره ، وبَقِيَ يتَنَقَّلُ بينَ الطَّاعِمِينَ : يُؤْنِسُهم بحدِيثِه ، وبشَاشةِ وجهِهِ ، ويأخذُ بيده ممَّا على المائدةِ ، فيَضَعُ منه أمامَ الواحدِ بعدَ الواحدِ ، لا يفرِّقُ في هذا بينَ كبير ، وصغيرٍ .
وكانَ أكثَرُ وقُوفِهِ بينِي ، وبينَ رجَب – رحمه الله – يؤْنِسُنَا بالحديثِ ، وبشَاشَةِ الوجهِ كما يؤنِس غيرنا ، ويأخذُ بيدِه ممَّا علَى المائدةِ ، فيضعُ أمامَ رَجَب مرَّة ، وأمَامِي أخرَى ؛ لمَا رأى من خجلنَا الظاهرِ ، وقلةِ انبساطِنا للطعام ، ونحنُ نأكلُ وسطَ هؤلاء الكبارِ الذين ذكرت أسماء بعضهم .
ولقدْ بقِيَ هذا الموقفُ الإنساني النبيلُ حيًّا فِي نفسي إلى الآن ، وما أكثر ما أتذكره ورحم الله أبا فهر فإنه كان يحملُ في صدرِه حنُوًّا أبوِيًّا ، ونفْسًا فسِيحَة في الخيرِ تسَعُ الكونَ بأسرِه ، وإنْ كانَ يُخْفِي هذا منهُ صرامَتُه ، وجَلاَدَتُه اللتان تنْطِقُ بهمَا ملامِحُ وجهِه الجادّ قبل لسانه .
وفي الجمعةِ التَّالِيَةِ علَى ما أذكُرُ قالَ رجَب لأبي فهرٍ ، ولمْ أَكُنْ حَاضِرًا – رأيناكَ لمْ تعَلِّق بقبولٍ ، ولا بِرَدٍّ علَى القصيدةِ التي أنشَدَها كمال . فما تقُولُ فيهَا ؟ . قالَ : في المزْبلة . – وهي بفتحِ الميمِ ، وضَمِّهَا – . فلمَّا عادَ رجَب إلى البيتِ ، وكنَّا نسْكُنُ معًا – قالَ : سأَلْتُ الشيخَ عن قصيدتكَ اليومَ . قلت : وما قال فيها ؟ . قلتُ هذَا ، وقد غَلَبَ علَي ظنِّي ما سيقوله الشيخُ ؛ لأني كنتُ قدْ فهِمْتُ صمْتَهُ يومَ الإنشَادِ : ماذَا يعْنِي به ؟ . فصَمَتَ رجب قليلا ، ثم ابتسمَ ابتسَامةَ الحَرَجِ ، وقال : قال : “في المزبلة “.
كنتُ عارفا بأمر هذهِ المَزْبلَة الشَّاكِرِيَّة ؛ فلمْ تصْدِمْنِي العبارةُ إلا قليلا حينَ طَرَقَتْ مَسَامِعِي ، وقلتُ لرجب ، وأنا أغالبُ وقْعَ العبارةِ على نفسِي – : أمَّا مثلُ مزْبلة أبي فهرٍ فإنَّ دخولَ مِثْلِي فيهَا أقربُ إلى المدحِ منهُ إلى الذمِّ ، أو كلامًا هذا معنَاهُ . ثم خُضْنَا في حديثٍ غيرِه .
وممَّا هوَّن عليَّ وَقْعَ العبارةِ : أنِّي لمْ أكُنْ أرى نفسِي يومهَا شاعرًا ، بل أنا لا أعد نفسي إلى الآن إلا طارئا على الشعرِ ، غيرَ أصيلٍ فيه أصالةَ الموهوبينَ . مع أني طبعت ما أبقتهُ الأيام من شعري سنة 2006م ، في ديوان أسميته : “الموءودات” . وكثيرا ما يطرقنِي طارق الشعر فأعرِضُ عنه إذا لمْ يأتني منه ما أريدُه ، وقلما يأتيني منه اليومَ ما أريده . وأيضا لأني لم أكن قلتُ من الشعر يومها إلا القليلَ ؛ فلم أشعر أنَّ الشيخَ بما قال قدْ سَلَبَنِي شيئًا ذا بالٍ .
وأذكرُ أني جلسْتُ بعدَ ذلكَ بمدةٍ ليستْ بالطويلةِ ، ونحنُ في مجلس الشيخِ – إلى جِوَارِ الأستاذِ : عبد الرحمن شاكر : ابنِ أخِي الشيخِ ، وكان رجلاً ، وقُورًا ، ودُودًا ، شَاكِرِيَّ السَّمْتِ ، يعمل بالصحافة. فقالَ لِي – وكانَ قدْ سمِعَ بما قالَ الشيخُ – : أرجو ألا يكونَ قدْ أحزَنَك ما قاله عمي : فو الله لقد سمعتُه في هذا المكان وهوَ يغْلِظُ القول للشاعر : محمود حسن إسماعيل على شعرٍ قالَهُ . ولم يكنِ الأمرُ قد أحزنَنِي بالفعلِ ؛ لما ذكرته لكَ.
وأمْرُ تلكَ ( المَزْبلَة الشَّاكِرِيَّة ) كانَ يُحَيِّرُني قديمًا ، وهوَ يحَيِّرُني إلى الآن . فإذَا أنا قدَّمْتُ حسنَ الظنِّ – ومثلُ أبِي فهرٍ منْ يُقَدَّمُ معهُ حُسْنُ الظنِّ – قلتُ : إنَّ الرجلَ لم يكُنْ يقصِدُ بهذهِ العبارَة الخَشَنة إلا مَا نعْنِيه نحنُ الآنَ بقولنَا لشيءٍ لا يعجبنا : لا يعجبنِي .فكأنهُ كان يعْنِي بهَا إذا ذُكِر عندَه مَن لا يعْجِبُه ، أو مَا لا يُعْجِبُه – : هذا لا يعجبُنِي . ثم أخرجَ الكلامَ هذَا المخْرَجَ الخشِنَ . أقولُ هذَا ، وأنَا لمْ أرْتَضِ هذه العبارةَ من الشيخِ أبدًا . وفرقٌ كبيرٌ بينَ تأويلِ عبارةٍ ما وبينَ ارتِضَائِها ، أو القولِ بهَا.
وأبو فهرٍ رجلٌ من طرَازٍ فريدٍ في العلمِ ، أتعَبَ مَن جارَاهُ ، أو حاكَاهُ ، وأتعبَ من عَارَضَهُ ، أو خَاصمَهُ على السواءِ : كانَ يغارُ علَى هذه اللغةِ العربيةِ الشريفَةِ ، وعلَى علُومهَا ، وآدابِهَا، وبخاصةٍ شعرُها الأول ، وعلى ما تركهُ لنَا الأسلافُ من هذا كلِّه – غَيْرَةَ الحُرِّ ، الأَبِيِّ علَى حَرِيمِه ، وكان ربَّمَا أفرَطَ في الغَيْرَة كما يُفْرِطُ المحِبَّ ، العاشق أحيانًا في غيرتِه. وكانَ إذا تحدث عن هذا المعنى أقبل إقبال السيل الأَتِيِّ ، وفاضَ فيضانَ البحرِ في مدِّهِ..
كانَ يأخُذُ نفسَه قبل غيرهِ في هذَا كلِّه بأقصَى مَا يستَطِيعُ منَ الجِدِّ ، والحَزْمِ ، والعَزْمِ ، والدَّأَبِ ، والصبر على مكابدةِ القراءة ، والدرْسِ ، والكتابة ، ولا يرْضَى في هذا بما دونَ الثُّرَيَّا ، ويكْرَه أن يأخذَ نفسه في شيءٍ منه بالترخُّص ، وقد عايَنْتُ أنا أيام كنت أجلسُ إليه جانبًا من هذا بنفسِي ، كما عاينه غيري ممن جلس إلى الشيخ ، ولو حدثتك عن هذا لطال الحديث ، ولخرج الكلام من الباب الذي عقدته عليه . ومنْ أطالَ القراءةَ للشيخ ، وأحسنَ الفهمَ عنهَ وجَدَ مِصدَاق هذا .
وكان يحبُّ لغيرِه من أهل العلم أنْ يأخذَوا هذا الميراث بأقصَى مَا يستَطِيعُون منَ الجِدِّ ، والحَزْمِ ، والعَزْمِ ، والدَّأَبِ ، والصبر على مكابدةِ القراءة ، والدرْسِ ، والكتابة ، وأن لا يرْضَى الواحد منهم فيه بما دونَ الثُّرَيَّا ، ويكْرَه له أن يأخذَ في شيءٍ منه بالترخُّص .
كان يحِبُّ لطلابِ العلمِ الذين جلسُوا إليهِ ، وائْتَمَنُوه على عقولِهم – وكنتُ واحدا منهم – ألا يرْضَوا لأنفسهم بما دون ذلك . ولهذا لم تقَعْ منهُ قصيدتي الموقعَ المَرْضِيَّ ؛ لأنها لمْ تأْتِ علَى مُرَادِهِ . ولمْ يشْفَعْ لي عندَه أني حَاكَيْتُ النمطَ الشعريَّ الذي يعجبُه فيما بدا لي ، ولا أنِّي ذكرْتُ لهُ في تلك القصيدة نورَ عينيهِ : فهْرًا ، وزُلْفَى ؛ فمثلُ أبي فهرٍ مَن لا يَقْبَلُ الرِّشَى ، ولا شافِعَ عنده يشفعُ غيرُ الإجادة على شرائطهِ ، وأنَّى لمثلِي هذه الشرائط يومَهَا ، أو الآن .
*
[1] الفَيْنَانُ المُفْرَد : فرعُ الشجرةِ الذِي اسْتَتَمّ حُسْنًا، وكمَالًا ، ونضَارَةً . ووَافِدُ الشرقِ : ضوءُ الشمسِ أوَّلَ ما تُشْرِقُ . والمَحْتِد : الأصْلُ