حمَل المذيع محمود الورواري إلى الدكتور فيصل الحفيان بعضًا من المقولات الحداثية التي تحمِّل التراث العربي وبالأخص التراث الديني مسؤوليةَ تخلف الفكر العربي والإسلامي، كقول القائل: إن التأخر التاريخي والحضاري يتحمل مسؤوليته العقل التراثي، وكقول أحدهم: إن العقل الموروث هو أصل الإحباط.
وقد أدار المذيع الحوار حول مجموعة من الأسئلة التي أجاب عنها الدكتور فيصل، منها:
هل العقل الموروث هو أصل الإحباط؟
كيف يُصنف الدكتور فيصل الحفيان التراث الديني؟
وكيف يمكن إحداث التجديد في الجزء المقدس من التراث الديني خصوصا تفسيرات القرآن وثوابت الشريعة؟
وهنا كيف يمكن إحداث تقارب واتصال بين العقل الحداثي والعقل التراثي القديم؟
وإذا كان الدكتور فيصل الحفيان يعترف بأن التراث ليس كله مقدسا وأن به كثيرا من معطلات العقل العربي فلماذا يعترض على هدم وإزاحة السيء منه؟
وقد أجاب عن كل هذه الأسئلة د. فيصل الحفيان إجابات تامة محكمة، فكان مما قال: هناك مجموعة من النقاط التي ينبغي أن نبني عليها حديثنا عن التراث، وتلك النقاط تؤصل لدحض تلك الشبهات التي تثار حول كل قديم، فالنقطة الأولى: هي أن التراث في صلبه هو منتوج بشري، والمنتوج البشري فيه الخطأ، وفيه الصواب.
والنقطة الثانية: التي أكِّد عليها لأهميتها هي: أن المشكلة ليست في التراث، إنما المشكلة في قراءة التراث، لأن التراث بغض النظر عن موضوعه، سواء أكان نصا دينا أو نصا غير ديني، هو محتمل للخطأ والصواب، ومحتمل لأن يكون فيه أو منه هامش غير مقبول، أو لا يتوافق مع العصر ومستجداته، لكنه في مجمله هو منتوج حضاري.
أيضا لابد وأن نفرق بين الماضي والتراث، لأن الماضي دائما مقطوع، أما التراث ووصوله إلينا يفيد بأن فيه شيئا يستحق، لذا وصلنا مع مُضِيِّ كل هذه القرون الغابرة، فالتراث ليس معطِّلا ولا سببا من أسباب التخلف والرجعية.
ولا يصح أن نحمل كل أسباب الظواهر المتطرفة على التراث، لأن المشكلة ليست في التراث كما قلت، إنما المشكلة في الاقطتاع من النصوص، وفي ليِّ أعناق النصوص وتوظيف هذه النصوص لمآرب الجماعات ومعتقداتها، فالنص واحد متعدد الأوجه تقرأه عقول كثيرة، فيقرأه الحداثي فيفهم منه شيئا، ويقرأه واحد آخر ينتمي إلى رؤية مختلفة فيفهم منه شيئا آخر، وكل منهما يستدل به ويوظفه على ما يقول ويعتقد، إذن لا يصح أن نحمل التراث مسؤولية التطرُّف والدماء التي تراق الآن في الأرض.
ولا يصح أيضا أن يكون التراث ضمن الأسباب التي أوصلت العقل العربي إلى ما نحن فيه الآن من تأخر ورجعية وانهزام، ولا يصح أن يكون التراث عبئا على الحضارة.
يذكر أن د. الحفيان رفض ما يطالب به بعض الحداثيين من دعوة إلى قطيعة التراث، وهجره وذمه، لأن فكرة القطع والوصل هي في أساسها الفلسفي هي فكرة خاطئة، فلا يصح القطع أبدا مع الذاكرة؛ لأن فيها الكثير من المضيء وفيها أشياء من الممكن أن أتركها أو أزيحها، لعدم صلاحها لي في هذا العصر، إنما القطع النهائي مع التراث شيءٌ مرفوض، لا يصح.
وقد عرَّف د. الحفيان التراث بأنه ما يتركه البشر لبعضهم، أو الأناس العقلاء لبعضهم.
وأشار بأنه لا يتعبد بالتراث، وفي المقابل ليس مع نقض التراث، إنما هو مع النقد، وإن مفهوم النقد وتعريفه مختلف عن مفهوم النقض، فالنقد في المعجمات اللغوية هو تمييز الجيد من الرديء، أما النقض بالضاد فهو الهدم والإزالة الكلية، وفكرة التراث في حد ذاتها تعني المسائلة، والقرآن والسنة ليس محل مسائلة إنما هو محل تفسير، إذن نصوص الوحيين ليست من التراث.
وقال بأنه لا يصح أن نغض الطرف عن عظيم مثل أبي حنيفة، أو فقهاء الإسلام، وابن تيمية الذي يشوَّه اليوم في بعض الأعلام وجعله مرجعا من مراجع الإرهاب والتطرف كداعش وغيرها كلام غير صحيح، وصورته التي يوصف بها اليوم هي صورة موظفة؛ لأن ابن تيمية رجل من أشد العقول حرية، وله كتاب كبير في درء تعارض العقل والنقل، وذكر بأن ابن تيمية لو لم يكن موجودا لصكَّت داعش كلاما آخر يوافق أيدلوجياتهم، لأن الأيدلوجي لن تعجزه مسألة النصوص.
وإن فكرة القتل وسفك الدماء هي فكرة عالمية موجودة ليست عربية وشواهدها الحرب العالمية التي وقعت في أوربا، فلا يصح أن نعلق كل الظلام على شمَّاعة التراث وكل ما هو موروث وقديم.
وذكر بأنه يعتقد بأن العقل التراثي في حينه كان عقلا شديد الحداثة، فرموز التراث في عصرهم كانوا شديد الحداثة، وضرب مثلا بالإمام الشافعي الذي هو إمام أهل الحديث فقد كانت له في بغداد آراء فقهية يفتي بها فلما عاد إلى مصر ظهرت له آراء أخرى تخالف ما كان يفتي به في بغداد، فغيَّر آراءه، وهذه حداثة تراثية،
إذن التراث يحتاج إلى إعادة قراءة من منظور كلي، لا بمنظور جزئي، فلا أقول أقرأ كذا ولا أقرأ كذا، لأن توسيع أفق القراءة والاطلاع الكلية يوضح الصورة ويكشف ضياءها بحيث لا تكون الصورة مشوشة على مبصرها ومعتقدها.
فالتجديد الحقيقي يكون بالتراث وإعماله لا بإهماله وهجره.
للاستماع للحلقة المشار إليها انظر هذا الفيديو