رحلة مخطوط: أصل أبي القاسم بن ورد التميمي بقلم: د. نور الدين الحميدي الإدريسي

مقالات تراثية [4]

النشر الإلكتروني باعتماد المعهد

turathuna@malecso.org

رحلة مخطوط:

أصل أبي القاسم بن ورد التميمي ألمريي (تـ:540هـ) ([1]) من (صحيح البخاري)؛

بقلم: د. نورالدين الحميدي الإدريسي

 

يعد هذا الأصل الخطي، من الأصول المعتمدة لدى المغاربة في «صحيح البخاري»، وقد وهم شيخ شيوخنا العلامة محمد المنوني رحمه الله، عندما جعل هذا الأصل من رواية أبي ذر الهروي، وذلك حيث قال – بعد أن قرَّر أن أصله من رواية أبي ذر – : “والغالب أن أصل أبي القاسم بن ورد من روايته للبخاري، قد استمر معروفا بالمغرب إلى صدر المئة الهجرية السابعة، وسنتبين أنه من بين الأصول التي يحضرها أبو الحسن الشاري، إلى مجلس إقرائه لنفس الكتاب بالجامع الأعظم من سبتة. غير أن هذا الأصل لم ينتشر بالمغرب…”.([2])

والصحيح أنه من رواية القابسي، كما يخبرنا عن ذلك أبو الحسن الشارِّيُّ، فقال: “…، وفي مجلس السماع حفيدي يحيى بن أبي عبد الله محمد بن محمد البَطَرْني، وهو ممسك الأصل المحبَّس بمدرسة سبتة أصل أبي القاسم أحمد ابن ورد الذي كُتِبَ له من أصل أبي القاسم المهلَّب بن أبي صفرة، وهو رواية القابسي“.([3])

فكون الحافظ ابنِ ورد التميمي يروي صحيح البخاري – رواية أبي ذر – عن ابن الغرديس الفاسي، لا يلزم منه أن أصله مبنيٌّ على هذه الرواية، وهذا ما أكده نصُّ أبي الحسن الشاري الآنف، وقد بيَّن أبو الحسن الشاريُّ مظاهر بذاخة وجلالة أصل أبي القاسم ابنِ ورد في الوجوه التالية:

أ_ أنه مُنْتَسَخٌ من أصل أحد كبار حفاظ ألمرية، بل كبار حفاظ الأندلس، المهلب بن أبي صفرة (تـ:436هـ)، الذي أحيا كتاب البخاري بالأندلس كما قال ابن سهل القاضي([4])، وهو تلميذ مباشر لأبي الحسن القابسي، رحل إليه للسماع منه بالقيروان، فأصله إذا منتسخ من أصل القابسي.

ب_ تصحيحه لأصله بأصلِ الحافظ أبي علي الجياني([5])، عندما رحل إلى قرطبة في رحلته الثانية سنة: 497 أو 498هـ، وسمع عليه البخاري وناوله إياه حينها، ولا شك أن نسخة قوبلت على أصل الحافظ المتقن الضابط أبي علي الجياني، حازت من الشرف والفضل ما أهَّلها لتكون قمينة بالصون والحفظ، لأن أصل الحافظ الجياني جامع بين شتى روايات البخاري المشهورة بالأندلس، مع بيان فوارقها والتنبيه على اختلافها والزيادات والنواقص التي فيها، يدل على ذلك، قول أبي علي الجياني: “لأن في رواية محمد بن يوسف الفربري زيادة على رواية النسفي نحوا من تسع أوراق من نسختي وقد أعلمت على الموضع من كتابي “.([6])

ولا شك أن ابنَ ورد استفاد من تلك الطرر والتعليقات الكاشفة عن الفروق بين روايات البخاري في أصله.

ج_ تصحيحُهُ لأصله على أصل أبي محمد ابن عتاب القرطبي (تـ:531هـ)([7]) وناوله إياه([8])، الذي بخط والده الحافظ أبي عبد الله ابنِ عتَّاب، وأصلُ ابنِ عتاب هذا مُنْتَسَخٌ من أصل الأصيلي، فهو تلميذه ولزيمه، وكان قصدُ ابنِ ورد من مقابلة نسخته بأصل من رواية الأصيلي إثبات الفروق التي بينه وبين رواية القابسي التي بُنِيَ عليه أصلُهُ، ويُخبرُ ابنُ ورد عن ذلك بقوله: “ومن كتاب أبي محمد بن عتاب اتفقت رواية الأصيلي، فإن أبا عبد الله بن عتاب كتبها من أصل الأصيلي الذي بخطه وقابلها به”. ([9])

د_ قراءة أصله على شيخه الفقيه أبي القاسم أصبغ بن محمد الأزدي القرطبي (تـ:505هـ)([10])، أخبر بذلك أبو الحسن الشاري فقال: “وهو رواية القابسي وقراءة ابنِ ورد على أبي القاسم أصبغ بن محمد الأزدي”.([11])

هـ_ مقابلةُ أصلِهِ على أصْلِ الحافظ المتقن الإمام أبي الحسن طاهر بنِ مُفَوَّز الشاطبي (تـ:484هـ)([12])، في سنة: 501هـ([13])، وعلى الأرجح أن ابنَ ورد رحل إلى شاطبة للمقابلة على أصل ابنِ مفوّز لما عُرفَ عنه من الإمامة في الحديث رواية وصَنعة، عند أحد ذرية ابن مفوز الذين اشتهروا بالعلم والرواية، وهذا يدل على أن أصل ابنِ مُفَوَّز كان مشهورًا ومُحْتَفًى به ومَقْصودًا لضبط النسخ عليه.

فتأمل كيف طوَّف أبو القاسم ابنُ ورد بأصله بين حواضر الأندلس، حتى يصححه على الأصول العتيقة والنفيسة، ولا يبعد أن يكون ابنُ ورد ألمروي قابل أصله – من رواية القابسي – على أصل ابن الغرديس الفاسي-رواية أبي ذر – قبل أن يرحل لقرطبة ليقابله على أصليْ الجيانيِّ وابنِ عتاب، حيث كانت رحلته لسجلماسة سنة: 493 أو نحوها([14])، فيكون أصل ابنِ ورد مقابَلا على هذه الرواية وليس مرويًّا من طريقها، وهذا أوردته على الاحتمال لا الجزم. ولا أغفل التنبيه على أن ابنَ ورد التميمي من شُرَّاح البخاري إن لم يكن من أجلهم، حيث ذكر الحافظ الذهبيُّ أن شرحه قد يكون في مائتي مجلد([15])، وقد وقف على مجلد منه، وممن نقل من شرحه الحافظ ابنُ دحية، فقال: “وقد أوضح ذلك عالمُ أهل زمانه القاضي أبو القاسم ابنُ وَرْد في «شرحه لصحيح البخاري» بأوضح البيان، حدثني عنه جماعة، منهم: عالم المغرب قاضي القضاة أبو موسى عيسى بن عمران ” ([16])، ولعل هذا يكشف لنا سببا من أسباب عنايته بتصحيح أصله من صحيح البخاري، إذ شرح مثل هذا الكتاب لا يتأتى إلا على نسخة مصححة مضبوطة على الأصول العتيقة والمتضمنة للروايات المختلفة.

فلما كان أصلُ ابنِ ورد على هذا المثال من الجلالة ودقة الضبط والإتقان، اعتُنِيَ بتحصيله وتملِّكه بعد وفاة صاحبه، فسِيمَ حُرقة التغريب عن ألمرية، حيث ظَفرَ به الحافظ أبو الحسن الشاري وحبَّسه  بمكتبة مدرسته العامرة بسبتة([17])، وكان مُعتَمدًا في مجالس إسماعه بسبتة ومنها المجلس الذي تقدم الإشارة إليه والذي حضره أعيان الطلبة والحفاظ منهم أبو الحسن الرعيني وأبو فارس الجزيري السبتي سنة: 638هـ، ومما يؤسف له أن خبر هذا الأصل مجهول بعد هذا التاريخ، كما لا يعرف فرع عن هذا الأصل، وضياع مثل هذه الذخائر التي قضى أصحابُها في تصحيحها وضبطها واقتنائها وحفظها، أعمارهم وأموالهم وجهودهم رُزء لا سُلُوَّ عنه، وخسرانٌ لا عوض له.

وهناك أصول  أندلسية ومغربية كثيرة لصحيح البخاري، نأتي على ذكر بعضها في مقالات أخرى، بإذن الله تعالى.

********************

 

([1]) تُنظر ترجمته في (الصلة،1/84) لابن بشكوال، و(معجم أصحاب الصدفي،1/23) لابن الأبار.

([2]) (قبس من عطاء المخطوط المغربي، 1/87).

([3]) (إفادة النصيح، 110).

([4]) (ترتيب المدارك 8/36).

([5]) أفاده أبو الحسن الشاري كما في (إفادة النصيح، ص:110).

([6]) (الفهرسة، ص:84) لابن خير، وهناك نقل آخر يدل على ذلك لا أطيل بذكره، وتلكم الطرر والتعليقات، هي أصل كتاب أبي علي الجياني (تقييد المهمل وتمييز المشكل).

([7]) تُنظر ترجمته في (الصلة،1/332).

([8]) أفاده أبو الحسن الشاري وأبو القاسم ابنُ ورد نفسُه كما في (إفادة النصيح، ص:110).

([9]) (إفادة النصيح، ص:110).

([10]) (الصلة،1/110).

([11]) (إفادة النصيح،ص:110).

([12]) (الصلة،1/235).

([13]) نصَّ عليه أبو الحسن الشاري كما في (إفادة النصيح،ص:110)، ولا زال السفر السابع من أصل ابن مفوزر محفوظا بخزانة القرويين رقم: 94، ويسر الله الوقوف عليه ودراسته.

([14]) (معجم أصحاب الصدفي،ص:24).

([15]) (تاريخ الإسلام،11/725).

([16]) (التنوير،ق224/أ).

([17]) (إفادة النصيح،ص:110).

******************

المصادر:

(إفادة النصيح في التعريف بسند الجامع الصحيح) لأبي عبد الله ابن رشيد السبتي، تـ: محمد الحبيب ابن الخوجة، ط: الدار التونسية للنشر.

(تاريخ الإسلام) لأبي عبد الله الذهبي، تـ: بشار عواد معروف، ط: دار الغرب الإسلامي، سنة: 2003م.

(ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك) للقاضي عياض السبتي، ط: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، سنة: 1403هـ.

(التنوير في مولد السراج المنير) لأبي الخطاب ابن دحية السبتي، نسخة دار الكتب الظاهرية بدمشق.

(الصلة) لأبي القاسم ابن بشكوال، تـ: السيد عزت العطار الحسيني، ط: مكتبة الخانجي بالقاهرة، سنة: 1414هـ.

(قبس من عطاء المخطوط العربي) للعلامة محمد المنوني، ط: دار الغرب الإسلامي، سنة: 1999م.

(معجم أصحاب القاضي الصدفي) لأبي عبد الله ابن الأبار البلنسي، ط: المكتبة الثقافية الدينية، سنة: 1420هـ.

********************