كتابُ تنبيه الغبيّ على مقدار النبيّ ﷺ لأبي بكر بن العربي المعافري عَرض وبَيان د. عبد الله التَّوْرَاتي

النشر الرقمي باعتماد المعهد

تراثنا

turathuna@malecso.org

السلسلة الثقافية (20) 

كتابُ تنبيه الغبيّ على مقدار النبيّ

لأبي بكر بن العربي المعافري

عَرض وبَيان

د. عبد الله التَّوْرَاتي

أستاذ الحديث وعلومه بجامعة محمَّد الأوَّل/المغرب

هذا الكتاب من أنفع ما ألَّفه المغاربة في تعظيم قَدْرِ النُّبُوَّةِ والنبيّ، ومن أرفع ما كتبوه في ذلك، واقتعد فيه الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي مكانة عليَّة، ومنزلة جليَّة، ظهر فيها شفوفه ونبوغه، وامتلاكُه لناصية علم الكلام، ومعرفته بقواعده ومقاصده، وما ينضاف إلى ذلك من المخالطة لمقالات الفرق، والمعرفة بأغراضها، والوقوف على شُبَهها، والانفصال عنها، وتطريز الأدلة، وتحقيق المعلول والعلة، وطَرْدِ ذلك وعَكْسِه، على رَسْمِ أهل الحق، وعلى طريقة أهل السُّنَّة؛ وفَّر الله جمعهم، ويسَّر أمرهم.

موضوع الكتاب وفَنُّه:

وهو مندرج في عِلم التوحيد وفَنِّه، مُنتسب إليه انتسابًا، مُعَوَّلُه فيه على ما يجوز في حق الأنبياء وما يجب ويستحيل، وهو أمر معروف مشهور في كُتب المتكلمين.

وانتمى هذا الكتاب إلى النظر الخاصِّ لأبي بكر بن العربي في تصنيف العلوم وترتيبها، وكانت بداءته بالفنِّ الأول منها، وهو التوحيد، وفيها صنَّف كتبه العقدية، ولم تقع الكفاية بكتاب أو كتابين يتناول فيهما مسائل العقيدة التي يتعيَّن معرفتها؛ على عادة علماء زمانه، فقد تميَّزت تصانيفه العقدية بخِصِّيصَة جعلها تندرج في نَسَقٍ واحد، يُكَمِّلُ بعضُها بعضًا؛ لتكون دالَّةً وقاصدة لما أراده القاضي من تأليفها، فكان في كل كتاب يُبَشِّرُ بكتاب آخر أو بكتب أخرى مُكملة لما هو بسبيله.

الباعث على تصنيفه:

وإنما شرع القاضي أبو بكر فيه لما يرجوه من الدُّخر، ويبتغيه من الأجر؛ بصون مقام النبوة عن طعن الطاعنين، وافتراء المفترين، وكان من آكد ما يدعوه إلى ذلك قصد بعض العارفين لقدره، والمدركين لنُبله، إلى كشف ما يجول في كتب المفسرين، مما يحتطبه البعضُ في تصانيفهم، وفيه المساءة للنبوة، والشَّين لمقام القدوة، ولا أرى في ذلك إلا إحدى بركات مجالس الإمام أبي بكر، فبعد أوبته من رحلته، وما جلبه في سَفرته، وقد كان من نهجه ذِكْرُه لمفاخر ما رآه، ومباهج ما لاقاه، وفيها تلك القواعد الركينة من علم التوحيد وكُتبه، فتطلَّعت همته إلى تبيّن حقيقة ما يُشاع من تلك الروايات، من غير نظر إلى أسانيدها، ولا مداخلة لدلائل دَفعها، فكان ذلك الرجاء الذي أثمر هاته الرسالة المنبهة.

وقد ألقى الإمامُ هنا باللائمة على كُتب التفسير، لجمعها كل ما قيل، وتقصيرها في تمحيصه، وقد كانت الأندلس على دُستور من سبقها؛ من الاعتمال بالقرآن، والنظر في حروفه، والاقتصار على معانيه، من غير خلط ذلك بعلم الكلام، فكانت تفاسيرهم على نهج أهل الأثر، وربما أوردوا في أثناء الفَسر والبيان ما يكون مشكلًا، ولا يرون التعرض له، أو النقض لمفهومه، إلى أن رَحل الرحَّالون من أهل النظر؛ كأبي الوليد الباجي، وابن العربي، وغيرهما ممّن سلك طريق المتكلمة، ورام تنزيه مقام الدين، وتبيان قواعد اليقين.

قال الإمام أبو بكر: «وسببُ ذلك: أن كل مُتعرِّض للقول على كتاب الله تعالى، وإن تبحَّر في فَنٍّ من العلوم والفنون؛ فإنه تَقْصُرُ خُطاه عن الترقي إلى ذُروة البحث عن الإله وصفاته والنبي وأحكامه، فإنْ أَخَذَ في ما يُحسنه من فنون عِلْمِ الكتاب أجاد، وإن وقع في هاتين الدَّيمُومَتين اعتسف من غيرها».

والقاضي هنا يرى لزوم معرفة علم الكلام، شرطًا أساسًا في النظر في الآي المتعلق بالله وصفاته، والنبي وأحكامه.

وقد كان هذا الذي رَبط قلبه عليه منهاجًا له في سائر تصانيفه التفسيرية، ابتداءً من «أنوار الفجر»، و«كتاب المشكلين»، وانتهاءً في «سراج المريدين» و«واضح السبيل».

وبيانُ ذلك: أنَّ الإمام قد جعل علوم القرآن ثلاثة علوم[1]؛ علم التوحيد، وعلم الأحكام، وعلم التذكير، ولا يرقى أحدٌ إلى علم التوحيد إلَّا بمعرفة قواعد علم الكلام ومسائله، والإدراك لطرائق النظر، وتمحيص الأدلة، وتحصين الدين، والرد على المخالفين، وهو بعدُ تحقيقٌ لعلم التوحيد، ونضالٌ عن دين الله[2].

وضَرب الإمام في «القانون» لكل فَنٍّ مثاله الذي به يظهر ويتضح، فدل ذلك على اشتراط معرفة قواعد التوحيد ودلائله للنظر في كتاب الله تعالى.

وقال في موضع آخر: «وتُخَلِّصُ من علم التوحيد الذات عن الآفات، وتُقدّس بالدليل الباري تعالى عن الجوارح»[3].

وذلك هو القانونُ الذي سار عليه في نَظره في الآي، وما كان في معناها من السُّنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وهو بهذا نَحْوٌ إلى التعلق بجميع العلوم في تفسير القرآن، وهو كذلك عند الأحبار المستبحرين.

وعنوانُ تأكيده ورَسمُ تأييده ما قاله أبو محمَّد المحاربي في طليعة محرّره: «إذ كتاب الله تعالى لا يَتفسّر إلَّا بتصريف جميع العلوم فيه»[4].

فإذا كان الأمر على ما قال، فعلمُ التوحيد منه، وعلمُ الكلام إليه، وبهما يرتفق للمفسّر الكلامُ في الآي على الجملة والتفصيل.

فصول وأصول الكتاب:

وقام هذا التأليف على ثلاثة فصول، وثلاثة أصول، وهذه سياقتها:

الفَصْل الأوَّل: في شَرح النُّبوة والنبيّ.

الفصل الثاني: في وَجْهِ معرفة النبيِّ صلى الله عليه وسلم بكونه نبيًّا.

الفصل الثالث: في وَجْهِ معرفة الخَلق بكونه نَبِيًّا.

الأصل الأوَّل: في معرفة ما يجوز عليه من صفات البَشر الذي هو منهم.

الأصلُ الثاني: في تسطير الروايات في المسألة ومقارنتها بجميعها.

الأَصْل الثالث: في وَجْهِ تخريجها على مِقدار الجائز عليه.

ذِكْرُ المعضلات:

والمعضلاتُ التي قَصَد إليها ابن العربي في هذا التنبيه هي:

الأولى: حكاية الغرانيق، وما جاء فيها من الروايات الباطلة.

الثانية:  زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب رضي الله عنها، وما قيل في ذلك من الأخبار الباطلة.

الثالثة: أحاديثُ السَّهو؛ حديث ذي اليَدَيْنِ، وعبد الله بن مسعود، وابن بُحَينة.

ذِكْرُ جواباتها:

وأجاب عن كل معضلة بما يُزيح عنها وجوه الإشكال، وبَسط ذلك وأتمّه على ما ينبغي البيان وأكثر.

وأورد على المعضلة الأولى بعد بيان فسادها واختلال رواياتها ونكارتها ثمانية إشكالات، ثم أجاب عنها، وكان جوابه على هذا النحو:

الإشكال الأوَّل: أجاب عنه من ثلاثة عشر وجهًا من وجوه البيان.

سائر الإشكالات: أجاب عن كل واحد منها بوجه واحد من أوجه البيان.

والمعضلة الثانية ذَكر ما ورد فيها من الروايات، وأجاب عن كل واحدة منها، بعد استضعاف الزائغ منها، السائر على غير أَمم الوثاقة.

والأخيرة من تلك المعضلات ذَكر فيها الأصل الذي ينبغي أن يعول عليه في ما أشبهها، ثم فسّر ما يحسُن تفسيره.

قراءتُه وروايتُه:

وممَّن قرأه على ابن العربي: غِرْبِيبُ بن خَلَف بن قاسم المَجْرِيطي، قال ابن الأبَّار فيه: «له رواية عن أبي بكر بن العربي، قرأ عليه كتاب تنبيه الغبي على مقدار النبي صلى الله عليه وسلم، من تأليفه، في رمضان سنة اثنتين وثلاثين وخمس مائة»[5].

قلتُ: ولا يقول ابن الأبَّار هذا إلا بعد أن يُعاين أَصْلًا من كتاب تنبيه الغبي، وفي آخره تاريخ قراءته عليه، وإجازة ابن العربي له بخطه.

وإنما كانت قراءة هذا الكتاب بقرطبة، أيَّام هجرة ابن العربي إليها من إِشبيلية، بعد ثورة سِفلة إشبيلية ورَعاعها عليه عام 529هـ.

وغِرْبِيبُ هذا كان من أهل الفقه والمعرفة بعلم الكلام، ومن أهل الدين والورع والفضل، ذَكره ابنُ الزبير[6]، وتَرجمه ابنُ عبد الملك[7]، ولم يَزد على ما ذَكر ابن الأبَّار شيئًا.

نُسخته الوحيدة:

وهي من كتب العلَّامة الشريف عبد الحي بن عبد الكبير الكتَّاني، في ثمان وعشرين ورقة، بخط نسخي قديم نوعًا، وعلى الكتاب خط الوفائي وتملُّكه.

وصوَّر لي هاته النسخة مشكورًا أستاذنا العلَّامة أحمد شوقي بِنْبِين؛ محافظ الخزانة الحسنية بالرباط.

تحقيقه ونشره:

ولَحق الكتاب نقصٌ أمسكني عن نشره سنين عددًا، ثم يسّر الله تعالى في تقدير ذلك النقص، والنظر فيه، وإن كانت النسخة قد طرأ عليها من التصحيف والتحريف الكثير، واستعنتُ بكُتب الإمام ابن العربي، وجرّدت منها ما يُعين على فهم مسائل الكتاب، وربطتُ بعضها ببعض.

ثم قدَّمت للكتاب بدراسة مختصرة، ذكرتُ فيها زمن تأليفه، وموضوعه، والباعث على تصنيفه، وموارده، وغير ذلك من مسائل التحقيق وأصوله.

وهو من الكتب التي قدّمتها لمؤسسة دار الحديث الكتّانية، وينشر قريبًا بحول الله تعالى ضمن سلسلة مؤلفات الإمام أبي بكر بن العربي، في جُزء وسط، بتقديم أستاذنا العلّامة الدكتور سيّدي محمّد الطبراني -حفظه الله ونفع به-.

[1]  قانون التأويل: (ص230).

[2]  المسالك: (7/222).

[3]  قانون التأويل: (ص273).

[4]  المحرر الوجيز: (1/10).

[5]  التكملة: (4/12).

[6]  صلة الصلة: (4/180).

[7]  الذيل والتكملة: (3/436).