تحقيق الكتاب أ. د. محمد كاظم البكّاء

النشر الرقمي باعتماد المعهد

تراثنا

turathuna@malecso.org

السلسلة الثقافية (23)

تحقيق الكتاب

  كتاب سيبويه إمام النحاة

 الأستاذ المتمرّس

الدكتور محمد كاظم البكّاء

mkalbakka@yahoo.com

     (الكتاب) إنجاز حضاري يقرن بكتاب بطليموس في علم هيئة الأفلاك ، وكتاب أرسطوطاليس في علم المنطق([1])، وهو عمل ضخم من أعمال الفكر الإنساني يمثّل خلاصة الفكر النحوي للرعيل الأوّل من النحاة العرب؛ فهو علم الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي تلقَّاه من شيوخه وأصاره إلى تلميذه سيبويه ، وبلغ من إعجاب القدماء به أنْ سَمُّوه ( قرآن النحو ) ([2])، ثم إنَّه أفضل ما أُلِّف في النحو من الناحية التعليمية ، قال ابن خلدون : “إنّه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط ، بل ملأ كتابه من أمثال العرب، وشواهد أشعارهم وعباراتهم فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة ، فتجد العاكف عليه والمحصّل له قد حصل على حظّ من كلام العرب واندرج في محفوظه في أماكنه ومفاصل حاجاته وتنبّه به لشأن الملَكة، فاستوفى تعليمها فكان أبلغ في الإفادة ” وقد فضّله على كتب المتأخرين([3]).

وقد استأثر البحث في منهج الكتاب بجهود عدد غير قليل من القدامى والمحدثين، فقد أورد السيرافي (368 هـ ) عليه بعض الملحوظات المنهجية، منها  ظاهرة التكرار أو تجزئة البحث الواحد([4])، وظلت الملحوظات على منهج الكتاب وترتيب أبوابه إلى وقت متأخر من زمن تأليفه، قال حاجي خليفة (1067هـ):  ” ليس فيه ترتيب ولا خطبة ولا خاتمة “([5]) وكأنَّ تقادم الزمن يزيد في حجب الوضوح عن منهج الكتاب وبناء أبوابه ، وقد وردت هذه الملحوظات المنهجية في كلمات عدد من الباحثين المحدثين أيضًا ، وأوّل من صرّح بأنْ ليس للكتاب منهج في ترتيب أبوابه وبحث موضوعاته الدكتور أحمد أحمد بدوي([6]).

وقال الدكتور حسن عون: ” إنّ التخطيط الخاص للمباحث الداخلية لا يزال مضطربا في ذهننا ومحيِّرًا بالنسبة لنا رغم محاولاتنا المتكررة “([7]).

ولم يدافع عن منهج الكتاب إلا قلة من الباحثين المحدثين ولم أجد من رسم بناء هذا المنهج أو وضَّح لنا تخطيطه الداخلي حتّى هيّأ لنا الله سبحانه وتعالى فرصة دراسة منهج الكتاب في مرحلة الدكتوراه ، فاتضح لنا أنَّه في تصنيف منهجي دقيق لو قدّم ثان على أوّل من أبوابه لاختلَّ نظامه، واضطرب منهجه؛ فقد بُني آخره على أوّله ، وتعلّق ثانيه بسبب من أوّله. وقد استوفى أبواب النحو كافة واستوعب أساليب العرب عامّة ، وقد اتضح لنا أنّ ما يعتور الكتاب من الغموض واللبس إنمّا يرجع إلى عدم تبين منهجه ومعرفة ترتيب أبوابه ومباحثه ، فليس ممّا يعقل أنْ تجد سبيلك إلى قصر منيف اتسعت مبانيه وتمّ تخطيط أقسامه على غير ما تألفه، ولم تجد الفرصة في دخول ما يناظره، حتى يقال لك: هذا مدخله وهذه أقسامه ، وقد تجد في نفسك حاجة إلى أنْ تصطحب دليلًا حتى تألفه ؛ ولذلك أقدمت بعد الاتكال على الله تعالى على أنْ أكون رفيقًا لقارئ الكتاب، أتابع أبوابه على ما هي عليه في ترتيبها بابًا بابًا بل فِقْرة فِقْرة في تصنيف منهجي، تتضح به مباحثه وتكمل الفائدة بدراسته حريصًا على أن يفيد طالب النحو منه سهل التناول داني القطوف، وهـو الكتاب الذي لا يحتاج من فَهِمَهُ إلى غيره ، فلم أجد كتابًا نحويًّا – على كثرة ما قرأت واطلعت- أفضل منه من الناحية العلمية والتعليمية، وقد أدركت أنّ ما يعانيه الطلبة في عدم استيعاب قواعد النحو يرجع إلى المنهج الذي ينتهجونه في دراستهم، وهو منهج النحاة المتأخرين الذي يتّسم بتخطيط يختلف عن منهج كتاب سيبويه ،قال أستاذنا علي النجدي ناصف : ” الفرق بينه وبين الكتب التي جاءت بعد عصره كفرق ما بين كتاب في الفتوى وكتاب في القانون ، ذاك يجمع جزئيات يدرسها ويصنّفها ويصدر أحكامًا فيها ، والآخر يجمع كليات يصنّفها ويشققها لتطبق على الجزئيات”([8]).

ويعدّ نشر (الكتاب ) أمرًا عظيمًا، وإنّ صاحب الفضل الأكبر في إحيائه والرائد الأوّل في نشره هو الأستاذ المستشرق الفرنسي (هرتويغ درنبرغ ) أستاذ اللغة العربية الفصحى بالمدرسة الخاصة للغات الشرقية في باريس ، ثم توالت طبعاته. وقد أَتمّها العلَّامة المحقّق عبد السلام محمد هارون في طبعته السادسة التي بذل فيها جهدًا عظيمًا في تحقيق الكتاب والتعليق عليه ، فحقّق للكتاب انتشارًا واسعًا لابد أنْ يذكر له بالإكبار ، ولكنَّ الكتاب ظلّ أبوابا متلاحقة ، ومسائل مزدحمة ، وفقرات متداخلة لا تخطيط يوضحها ولا تصنيف ينظمها ، فقرّرت بعد الاتكال على الله تعالى إعادة نشره في تصنيف منهجي، وتحقيق علمي، مفيدًا من جهود المتقدمين . ولكونه قد جاء مسك الختام لأعمالهم فلابد أن يتميّز بفضيلة ما لديهم ومزية الزيادة على ما عندهم على الوجه الآتي :-

أوّلًا :- اعتمدت على التصنيف المنهجي لأبواب الكتاب على ما اتضح لنا في رسالة الدكتوراه (منهج كتاب سيبويه في التقويم النحوي)،  فالكتاب في هذا الإصدار يمثّل التطبيق العملي لما استنبطناه في دراسة الكتاب من منهج في تصنيف الأبواب وترتيب الأمثلة، مقتنعين قناعة تامة أنّ هذا المنهج يمثّل التخطيط الداخلي الذي أراده سيبويه لكتابه.

ثانيًا :- طبّقتُ التصنيف المنهجي بقسمة الكتاب قسمين رئيسين هما (المقدّمة وأبواب النحو) و( أبواب الصّرف والأصوات)، ثم صنّفنا أبواب كلّ قسم منها في أجزاء، وكلّ جزء في موضوعات نحوية . فإنّك ستجد أنّ كلّ مجموعة من الأبواب تمثّل موضوعًا نحويًّا واحدًا يبنى على ما قبله ويرتبط بعلاقة  بما بعده، ثم يلتقي كلّ عدد من موضوعات النحو في قسم يضمها حتى تبلغ الأنواع الرئيسة التي اشتمل عليها القسمان ، وقد سميّنا هذه الأنواع والأقسام والأبواب ، وقمنا بتثبيت عنوانات المسائل وترقيم الأمثلة في كلّ باب؛ استكمالًا لتوضيح المنهج وتسهيلًا لمتابعته أو الرجوع إليه . وجميع ما أجريته من تصنيف منهجي وتسمية لعنوانات الأبواب ومسائل كلّ باب قد جعلته مميّزًا بوضوح عن متن الكتاب ونصّ مادته متابعا أبوابه في ترتيبها الذي وردت عليه ومحافظا على مادته على ما جاء فيها. وقد وجدت أنّ ثمّة مواضع للاستدراك والاستطراد في أثناء الكلام وقد تمتدّ فقرات طويلة وأبوابا متعددة، فنبّهت عليها في مواضعها .

ثالثًا :- جعلت الكتاب قسمين، وكلّ قسم أجزاء. فأما (القسم الأوّل) فقد ضمّ أبواب النحو ، وهو في أربعة أجزاء هي :

1- مقدّمة الكتاب ( أبواب الكلم والكلام ).

أنواع الإسناد – إسناد الفعل .

2- أنواع الإسناد – إسناد الاسم وإجراؤه على ما قبله

3- أنواع الإسناد – الإسناد الذي بمنـزلة الفعل

4- أحكام الإسناد مع بدائل الاسم المظهر:

(الضمائر، الاسم الناقص، الممنوع من الصّرف، الأسماء في باب الحكاية)

وأمّا (القسم الثاني) فـقد ضمّ أبواب الصّرف والأصوات وهو في ثلاثة أجزاء هي:

1- ما يعرض للفظ: أي أبواب ما يعرض للفظ عند صوغه على بعض  الأبنية  (النسب ، التثنية وجمع التصحيح …إلخ )

2- تأدية اللفظ: أي أبواب ما يقع للفظ عند التلفظ به وتأديته  (لفظ بعض الأمثلة، الإمالة …إلخ )

3- بنية اللفظ: أي أبواب عدّة ما يكون عليه الكلم وأحواله ، والزيادة ،   والتضعيف …إلخ .

وهي تجزئة لم يسبقنا إليها أحدٌ  ، وقد روعي فيها التصنيف المنهجي للكتاب من دون أدنى تغيير في ترتيب أبوابه في طبعات الكتاب السابقة .

 رابعًا :- اعتمدت في التحقيق على نسخة كاملة نفيسة لم يطّلع عليها أحد من الذين نشروا الكتاب، وفيها إضافات مهمة ومخالفة لغيرها، وهذه النسخة مخطوطة مكتبة الأوقاف ببغداد برقم (1351) كتبت سنة 1132هـ، واستعنت بنسخة أخرى هي مخطوطة مكتبة الأوقاف العامة في الموصل ( رقم السجل العام 6184 ) والرقم العلمي ( 14 / 11 صائغ ) وقد اعتمدت عليها في مقابلة النسخة الأصل ورمزت لها بالحرف (م) وقد قابلت الأصل أيضا بطبعة بولاق التي اعتمدت على طبعة باريس ورمزت لها بالحرف (ب)، ثم وجدت نسخة قديمة في مكتبة الجامع الكبير في صنعاء ، وهي أقدم نسخة مخطوطة عرفت حتى الآن لكتاب سيبويه برقـم ( 1764 )، فيها الجزء الرابع والجزء الثامن من كتاب سيبويه بخط كوفيّ كُتبا بتاريخين أقدمهما( 304 هـ )،وقد رمزت لها بالحرف (ص) ، وتوخيا للدقة وإكمالًا لجهد العلاّمة المحقّق عبد السلام محمد هارون جعلت تحقيقه نسخة خامسة في المقابلة مفيدا من تخريجه بعض الأبيات والقراءات والتراجم والتعليقات، وقد نسبت إليه ما نقلته منه، وهذا يعني أنّي حقّقت الكتاب بمقابلة أصحّ النسخ وأقدمها ، وبهذا لم يبقَ من نسخ الكتاب المخطوطة القديمة الكاملة التي لم تعتمد في تحقيق الكتاب إلَّا القليل ، وأكاد أجزم أنّ هذه النسخ التي اعتمدت عليها كافية جدا لضبط نصّ الكتاب على ما أراده صاحبه له مستندا إلى معرفتي بأسلوب صاحب الكتاب وتدبر مقاصده، وسأظلّ بحاجة إلى ملحوظات العلماء والمحققين للإفادة منها أمينًا على نقلها منهم ونسبتها إليهم، ساعيًا إلى نيل النسخ الخطية الأخرى ، فهذا العمل مشروع مستمر ومتكامل في تصنيف الكتاب وتحقيقه.

خامسًا:- أفدت من ست نسخ مخطوطة من شروح الكتاب وقد قرأتها بتدبّر في دراسة منهج الكتاب فوقفت على تفاوت بعض النسخ في تحديد الأبواب أو ترتيبها، ثم إنّي انتفعت بما جدّ من دراسات الباحثين والمحققين من العرب والمستشرقين في دراسة الكتاب وأصوله وشواهده وشرحه ،ممّا لم يتيسر لناشري الكتاب من قبل .

سادسًا:- اقتبست نصوصًا من شروح كتاب سيبويه المخطوطة لتوضيح بعض أقوال صاحب الكتاب التي نستشعر الغموض فيها، مشيرا بالتحديد إلى مواضع الاقتباس منها ولم نجد ذلك في طبعات الكتاب السابقة إذ اقتصرت على نقل بعض أقوال السيرافي فقط ولم تشر إلى مواضعها من شرحه .

سابعًا:- أوضحت مسائل الكتاب المشكلة وعلّقت على بعض أقواله وبسطت الكلام في توضيحها وشرحها .

 ثامنًا:- تدبّرت معاني شواهد الكتاب وأمثلته في أكثر من مرجع، وقد اعتمدت غالبا على شرح الشواهد للشنتمري لاهتمامه ببيان المناسبة والمعنى العام وقد اتضح لنا أنّه هو المعوّل عليه لدى المحقّق عبد السلام محمد هارون؛ ولغرض الدّقة والأمانة نقلت أقوال الشنتمري نصّا وأشرت إلى مواضعها تحديدا .

تاسعًا:- بذلت جهدا في إعادة قراءة مواضع الاستشهاد في شواهد الكتاب، فوقفت على بعض الأخطاء في توجيهها في الكتب التي درست الشواهد فصحّحتها في ضوء مواضعها في الكتاب وبلحاظ الغرض من إيرادها .

عاشرا وقفت على اختلاف بين النسخ  له أثر في مادة  الكتاب وفهمه في الذكر والحذف ، والضبط ، وقد عالجت جميع ذلك في هدي تمرسنا بأسلوب سيبويه  في سنين تجاوزت خمسة وعشرين عاما .

 

شرعت في هذا المشروع العلمي منذ عام 1989م حتى عام 2015 م ، وما زلت دؤوبا في مراجعته لتيسير قراءته وفهمه ، وقد صار بعض أبوابه (1/507) واضحًا جدًّا، وهو الباب الذي قال فيه السيرافي (شرح كتاب سيبويه – مخطوط – 2/27) : “هذا الباب فيه صعوبة . . . وقال الزجّاج: هذا بابٌ لم يفهمه إلا الخليل وسيبويه”، وكذلك كان عملنا في جميع أبواب الكتاب.

وبمزيد من التوضيح نتكلّم على هذا الباب ، وعلى الوجه الآتي :

[ أبواب استدراك في الحال ]

[الباب الأوّل-المصدر وما يجري مجراه في تركيب (أَمّا كذا فكذا)]

[ أوّلًا-  المصدر النكرة ] :

هذا بابُ ما ينتصِبُ من المصادرِ([9])؛ لأنّهُ حالٌ صارَ فيهِ المذكورُ، وذلكَ قولكَ: أَمّا سِمْنُا فسَمينٌ، وأمّا عِلْمًا فعالمٌِ([10]).

وزعمَ الخليلُ-رحمه اللهُ ([11])– أنّهُ بمنـزلةِ قولكَ: أنتَ الرجلُ عِلْمًا ودِينًا،  3/ 282 وأنتَ الرجلُ فهمًا وأدبًا، أي: أنتَ الرجلُ في هذه الحالِ. وعَمِلَ فيه ما قبلهُ وما بعدهُ([12])، ولم يحسنْ في هذا الوجهِ الألفُ واللَّامُ كما لم يحسنْ فيما كان حالًا وكان في موضعِ (فاعلٍ) حالًا([13])، وكذلك هذا، فانتصبَ المصدرُ لأنّهُ حالٌ مضمرٌ فيه([14]).

وكلّ همّي أنْ يكون ( الكتاب ) سهل التناول ، واضح المنهج ، يرجع إليه جميع طلبة اللغة، وفي تقديري أنّه سيفتح مشاريع للبحث والدراسة ، وإعادة النظر في المناهج الدراسية  في ضوء منهجه الذي سلك به أساليب الكلام منتظمة في أنواع الإسناد ، أي : أنواع الجمل ، وتصنيف أبواب الصرف والأصوات إلى ما يعرض للفظ ،وتأديته ، وبنيته .

ولعل من المناسب تبيان أهمية كتاب سيبويه وحرصي على تحقيقه بتصنيف منهجي هو تضمنه على قواعد منطقية تستند إلى الفكر النحوي العربي ، وإلى قواعد صوتية أدركها العرب بحسّهم الصوتي قد استلهمها سيبويه من مخالطة العرب في زمنه وملازمته للخليل بن أحمد الفراهيدي ، فقد وجدهم  ينصبون ما كان عذرا لوقوع الفعل ، قال سيبويه  (1/ 491) : قال سيبويه في المفعول له : ” هذا بابُ ما ينتصِبُ من المصادرِ لأنّهُ عُذْرٌ لوقوعِ الأمرِ، فانتصبَ؛ لأنّه موقوعٌ لهُ، ولأنّهُ تفسيرٌ لما قبلهُ لم كانَ؟ وليس بصفةٍ لما قبلهُ ولا منهُ، فانتصبَ كما انتصبَ (دِرْهَمٌ) في قولكَ: عشرون درهما “.

وقال سيبويه في علاقة  المستثنى بعامله ( 3/ 282) : ” هذا باب  لا يكون المستثنى فيه إلا نصبا ؛ لأنّه مخرج مما أدخلت فيه غيره ، فعمل فيه ما قبله كما عمل العشرون في الدرهم حين قلت : له عشرون درهما ” إذ وجد المستثنى خارجا مما دخل فيه وكان أقلّ عددا أو كمية  .

وأدرك حسّهم الصوتي من حيث الثقل والخفّة ، فقال ( 2/ 182): ” زعم الخليل رحمه الله أنّهم نصبوا المضاف نحو :يا عبد  الله ، و يا أخانا ، والنكرة حين قالوا : يا رجلا صالحا حين طال الكلام ، كما نصبوا : هو قبلَك ، وهو بعدَك ” ، وقال الخليل (العين 2/52) : “فإذا أفردوا قالوا : هو من بعدُ ومن قبلُ”

وقال سيبويه ( 3/ 92- 93) :” وإِنَّما جَعَلَ الخليلُ (رح) المنادى بمنـزلةِ (قبلُ) و(بَعْدُ)، وَشَبَّهَهُ بهما مفردينِ إذا كان مفردًا، فإِذا طالَ وأُضِيفَ شَبَّهَهُ بهما مضافينِ إذا كانَ مُضافًا؛ لأَنَّ المفردَ في النّداءِ في  موضعِ نَصْبِ كما أَنَّ (قَبْلُ) و (بَعْدُ) قد يكونانِ في موضعِ نَصْبٍ وَجَرٍّ ولفظهُما مرفوعٌ، فإذا أَضَفْتَهُما رَدَدْتَهُما إِلى الأَصلِ. وكذلك نداءُ النَّكرةِ لـمّا لَحِقَها التنوينُ وطالَتْ، صارَتْ بمنـزلةِ المُضَافِ.”  .

ومثله : داري خلف دارك فرسخًا ؛ قال سيبويه ( الكتاب 2/ 28) : ” وَأَمَّا قولُهُمْ: داري خَلْفَ دارِكَ فَرْسخًا، فانْتَصَبَ؛ لأَنَّ (خَلْفَ) خَبَرٌ (للدارِ)، وهو كلامٌ قَدْ عَمِلَ بَعْضُهُ في بعضِ واستغنى.  فَلَمَّا قالَ: (داري خَلْفَ دارِكَ) أَبْهَمَ، فَلَمْ يُدْرَ ما قَدْرُ ذاكَ ، فَقَالَ: فَرْسَخًا، وذِراعًا، وَمِيلًا، أَرادَ أَنْ يُبَيِّنَ، فَيَعْمَلُ هذا الكلامُ في هذهِ الغاياتِ  بالنَّصْبِ كما عَمِلَ (لَهُ عشرونَ درهمًا) في (الدّرهمِ)، كَأَنَّ هذا الكلامَ شَيءٌ مُنوَّنٌ يَعْمَلُ في ما لَيْسَ مِنْ اسمِهِ ولا هُوَ هُوَ، كما كانَ (أفضلُهُمْ رَجُلًا) بِتِلْكَ المَنْزِلةِ”.

وفي ضوء ذلك استنبطنا ( نظرية الحس الصوتي لتعليم النحو العربي – مدخل لدراسة كتاب سيبويه) التي نشرها مشكورا ( معهد المخطوطات العربية ).

وإنّك لتعجب من تنبّه سيبويه لخصائص اللفظ العربي لنفسّر على وفق قواعده بعض القضايا القرآنية ، قال تعالى : {وَقَضَـىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء : 23].

فقد تفرّد سيبويه في الكلام على (أفّ) وهي عنده صوت يدلّ على التأفف ، وليس كلمة على ما نجده عند جميع المفسرين والنحويين وعلى الوجه الذي سنبيّنه .

إنّ قول سيبويه هو الصواب فالله تعالى لا ينهى عن كلمة  (أفّ) وربما كانت غيرها أشدّ أذى ، وإنّما المنهيّ عنه صوت التأفّف الذي ينطقه المتكلّم عند الضجر والضيق وعدم التحمل كما ينطق المريض آهات تعبّر عن ألمه  ، فالتأفّف هو أدنى حدّ من الأذى وترك غيره أولى ، وهذا ما يناسب السياق في النصّ.

وإنّ قول سيبويه في كون ( أفّ) صوتا ؛ لأنّه جعل  (اسم الفعل) من أفعال الأمر خاصة ، فليس ثمة اسم فعل مضارع كقولهم : آه ، وآواه  ؛ وليس ثمة اسم فعل ماض كقولهم : هيهات ، وجميع ذلك أصوات .

وعلّة قول سيبويه إنّ فعل الأمر يراد به التعجّل في التنفيذ ، ولذلك جزمت العرب آخره  بحذف الحركة نحو:  اكتبْ  ، وحذف حرف العلّة نحو : ارمِ ، وحذف النون نحو : اكتبا ، ثم بالغ العربي في التعجل فصاغ (أسماء أفعال)  لفعل الأمر خاصة بصيغ غلب عليها قلّة مادّتها اللغوية ؛ ألا ترانا نقول: اس ، ونريد بها : اسكت.

وأخيرا وليس آخرا لقد تلقينا بفخر تقويم أهل الصنعة  لعملنا في الكتاب ، من ذلك تقويم سماحة العلامة الأستاذ الدكتور عبد الفتاح حبيب الأستاذ بجامعة الأزهر الشريف وجامعة المدينة المنورة الذي عقد ندوة تخصصية بعنوان ( كتاب سيبويه بين محققيه محمد عبد السلام هارون والدكتور محمد كاظم البكّاء ) وازن فيها بين تحقيق شيخ المحققين عبد السلام محمد هارون وبين تحقيقنا في الكتاب ، وقد نشرت الندوة في اليوتيوب ومواقع التواصل ،  انتهى فيها العلامة عبد الفتاح إلى إعلان ملحوظاته القيمة فقال : “وقد أحصيت الصفحات التي أشار فيها الدكتور البكّاء إلى التحريف أو السقط أو السهو الذي وقع في نسخة الأستاذ هارون, فجاء ذلك في خمس وتسعين ومئة صفحة ” ، ولكنّي أستدرك فأقول وهو بسبق حائز تفضلا .

ونشر الباحث جاسم الترابي من العراق في مواقع التواصل :”كتاب سيبويه بتحقيق الدكتور محمّد كاظِم البكّاء : حققَ الدكتور البكّاء كتاب سيبويه بمنهجية ميسَّـرة ، وقد بذلَ جهدًا كبيرًا، واعتمد على نسخ خطيّة نادرة حصل عليها من جامع صنعاء ، ومن مدينة الموصل ، وما يميّز هذا التحقيق طباعته طباعة تيسيريّة، وأضاف عنوانات أساسية وفرعية ، فكان دليلًا لكتاب سيبويه ، ومفتاحًا لأبواب سيبويه المغلقة ، إذ وضع تلك العنوانات بين [معقوفتين] بالخط الكوفي ، إذ أخرج الكتاب في ستة مجلدات:

المجلد الأوّل: وفيه أبواب (الجملة الفعلية)

وهو مجلد ضخم.
المجلد الثاني: وفيه أبواب (الجملة الاسميّة)

وهو مجلد صغير.
المجلد الثالث: الإسناد الذي بمنزلة الفعل وتطرق فيه إلى الحروف المشبهة بالفعل والاستثناء.
المجلد الرابع: أحكام الإسناد مع بدائل الاسم

(وهذا المجلد فيه الكلام على الضمائر)
المجلد الخامس: وهو المجلد الخاصّ بالصرف:
وفيه ثلاثة أجزاء:
الجزء الأوّل : التثنية ، الجمع الصحيح ، جمع التكسير ، التّذكير والتأنيث .
الجزء الثّاني : الأداء الصّوتيّ (الإمالة ، والوقف )

الجزء الثالث: يتعلق ببنية الكلمة من زيادة ونقصان.”

نفعنا الله بعلم علمائنا لخدمة لغة  القرآن الكريم .

*

الهوامش

([1]) انظر : معجم الأدباء ، 16 / 117.

([2]) أبو الطيب اللغوي : مراتب النحويين ، 106 .

([3]) مقدمة ابن خلدون ، 560 – 561 .

([4]) السيرافي : شرح كتاب سيبوبه – مخطوط -3 / 168 .

([5]) حاجي خليفة : كشف الظنون ، 2 / 142

([6]) الدكتور أحمد أحمد بدوي : سيبويه حياته وكتابه ، 29.

([7]) الدكتور حسن عون : تطور الدرس النحوي ، 43 .

([8]) علي النجدي ناصف : سيبويه إمام النحاة ، 159.

([9]) قال السيرافي (شرح كتاب سيبويه -مخطوط-2/27):

“هذا الباب فيه صعوبة… وكذلك قال الزجّاج: هذا بابٌ لم يفهمه إلاّ الخليل و سيبويه ” .

ويبدو لنا أنْ ليست ثمة صعوبة إذا عرفنا أنّ أمثلة هذا الباب ثلاثة:

1- المصدر النكرة: أمّا سمنًا فسمينٌ. وفيه (سمنًا) مصدر يعرب حالًا.

2- المصدر المعرفة: ( أ ) أما العلمُ فعالمٌ بالعلم (عالمٌ به).

(ب) أما العلمَ فعالمٌ بالعلم (عالم بالأشياء).

وفيه (العلمُ) في (أ) مرفوع وهو ههنا اسمٌ. أمّا (العلمَ) في (ب) فهو مصدر منصوب، والوجه
في نصبه أنّه حال أو مفعول له.

3- الصفة التي تجري مجرى المصدر النكرة: أمّا عالمًا فعالمٌ.

انظر: منهج كتاب سيبويه للدكتور محمد كاظم البكاء ،120-121.

([10]) الأصل ، م زيادة “وأما نبلاً فنبيلٌ”.

([11]) م زيادة “تعالى”؛ ب” رحمه الله” ساقطة.

([12]) أي : أنّه منصوب بعد تمام الكلام.

([13]) أشار إلى ضابط الحال، انظر: الهامش (41).

([14]) م ، ب ، هـ “مصير فيه”.

وما أثبتناه هو ما في الأصل، وهو الموافق للسياق.

 

المصادر

  1. تطور الدرس النحوي، الدكتور حسن عون .

مصر : منشورات معهد البحوث والدراسات العربية ، 1970 م .

  1. سيبويه إمام النحاة، علي النجدي ناصف .

مصر : مكتبة نهضة مصر ، 1953 م .

  1. سيبويه حياته وكتابه ، الدكتور أحمد حمد بدوي .

مصر : مكتبة نهضة مصر ، الطبعة الأولى فصلة من صحيفة

دار العلوم ، يناير 1948م .الطبعة الثانية بدون تاريخ .

  1. شرح كتاب سيبويه، السيرافي، أبو سعيد الحسن بن عبد الله. مصورة نسخة دار الكتب المصرية بالقاهرة ،الرقم (528 نحو تيمور ).
  2. شرح كتاب سيبويه ، السيرافي ، أبو سعيد الحسن بن عبد الله (تحقيق : الدكتور محمود حجازي ، والدكتور رمضان عبد التواب) ج1. القاهرة : 1986م.
  3. شرح شواهد سيبويه، الشنتمري .

(تحصيل عين الذهب من معدن جواهر الأدب في مجازات العرب)

(حاشية كتاب سيبويه السفلى ،المطبعة الأميرية ببولاق ،مصر 1317 هـ.)

  1. العين للخليل بن أحمد الفراهيدي ، تحقيق مهدي المخزومي ، وإبراهيم السامرائي ، دار ومكتبة دار الهلال.
  2. كتاب سيبويه تصنيف منهجي وشرح وتحقيق علمي ،

الدكتور محمد كاظم البكاء . منشورات زين الحقوقية والأدبية  بيروت ،2015 م.

  1. كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون ،الحاجي خليفة .

الإستانــة 1947م .

  1. مراتب النحويين، أبو الطيب اللغوي . (تحقيق : أبو الفضل إبراهيم ). القاهرة ، 1955م.
  2. معجم الأدبـاء ،الحموي .( تحقيق : أحمد فريد رفاعي ).

القاهرة : 1936م .

12- مقدمة بن خلدون ، العلامة ولي الدين عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون ، تحقيق عبد الله محمد  الدرويش ، الناشر دار العرب .

13 – نظرية الحس الصوتي لتعليم النحو العربي ، محمد كاظم البكّاء ) ، معهد المخطوطات العربية ، السلسلة المحكمة 10 ،2018