العناية الملكية السعودية بالمخطوطات العربية


اعتنى حكام الدولة السعودية الأولى منذ زمن التأسيس (١٧٢٧م) بالدرعية بجمع المخطوطات واستجلابها من الأمصار العربية والإسلامية، فتحفظ لنا هذه المخطوطات تملكاتهم وتعليقاتهم عليها، ومن أشهرها: تملكات الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود وابنه الإمام سعود، وأحفاده الأمراء مشاري وسعد وفهد أبناء الإمام سعود بن عبدالعزيز.
وإذا كان مجموع ما نُقِل خارج نجد بعد سقوط الدرعية من الغازي العثماني يبلغ نحو ألف مخطوط، فهذا يعني أن الدرعية وحدها يتجاوز عدد مخطوطاتها ضعف العدد المنقول، جُمِعت في مدة وجيزة بالنظر لموقع الدرعية الجغرافي وظروف ذلك الزمن.

وفي عصرها الثاني، عُرِف عن الإمام فيصل بن تركي عنايته بالمخطوطات، وكان ابنه الإمام عبدالرحمن “يُراسل التجار في المناطق لشراء الكتب”، وكذا أخوه الأمير محمد بن فيصل.

وبعد نحو ١٣٠ عامًا من سقوط الدرعية، يوقع حفيد أئمة الدولة السعودية الأولى جلالة الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود ميثاق إنشاء “جامعة الدول العربية” مع شركائه العرب؛ملوكًا ورؤساء لينهي نزاعات التاريخ السياسية، ويفتح أفق الوحدة الثقافية العربية بتأسيس أول جهاز ثقافي بجامعة الدول العربية: “معهد إحياء المخطوطات” في الرابع من أبريل عام ١٩٤٦م، ليقوم المعهد بأولى بعثاته لتصوير المخطوطات العربية في سوريا عام ١٩٤٧م ويسير على هذا النهج منذ نحو ٨٠ عامًا حتى آخر رحلاته العام الفائت (٢٠٢٣م) في موريتانيا، تخللها ثلاث بعثات لتصوير أندر المخطوطات بالمملكة العربية السعودية، أولها: في عهد الملك سعود عام ١٩٥٥م لتصوير مكتبات الحرمين الشريفين فبلغ مجموع ما صوِّر ١١٥ مخطوطًا نُشِر أندرها (٥٠) في مجلة المعهد في مايو من ذات العام.
وانطلقت البعثة الثانية في عهد الملك فيصل عام ١٩٧٣م وتسمّى “أم البعثات” لأن المعهد استطاع زيارة ٢٢ مكتبة عامة وخاصة وتصوير ٤٢٨ مخطوطة (٦٥.٤٧٠ ورقة)، وشرُفت البعثة باستقبال صاحب الجلالة لهم في مقر مجلس الوزراء بمدينة الرياض، وتصوير ٧ مخطوطات من مكتبة الأمير عبدالله بن عبدالرحمن الخاصة. وأحسن أبناء وأحفاد الملك فيصل بإنشائهم “مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية” والذي يحتضن نحو ٣٠ ألف مخطوطاً.
أما الزيارة الثالثة فكانت في نهاية عهد الملك خالد عام ١٩٨٢م، سبقها تزويد المعهد “مركز إحياء التراث الإسلامي” بجامعة أم القرى بمئات المصورات عام ١٩٧٦م. كما أصدر المعهد ثلاثة فهارس لمخطوطات ثلاث مكتبات سعودية.

نعود لنقول، بلغت العناية الملكية السعودية بالمخطوطات قمتها في عهد الملك فهد، ففي عهده تأسست المكتبة الوطنية الحالية، وتوسعت الجامعات والمراكز في اقتناء المخطوطات، ولا نبالغ إذا ما قلنا إنّ عدد المخطوطات الأصلية والمصوّرة تضاعف نحو ثلاث مرات في عهده رحمه الله، فضلاً عن جهود ابنه الراحل الأمير فيصل بن فهد في تصوير مخطوطات ومطبوعات جامعة برينستون لصالح المكتبة الوطنية عام ١٩٩٣م، والتي بلغت أزيد من ٢٥ ألف مادة.

ويطول الحديث عن جهود الملك عبدالله في العناية بالمخطوطات، ويكفي أن نشير إلى أن رصيد “مكتبة الملك عبدالعزيز العامة” من المخطوطات (٧٧٢١) كان بفضل إيمانه بأهمية جمع المخطوط العربي. وكان داعمًا حقيقياً لتحقيق التراث العربي، وفي سبيل ذلك دعم منظمة الأليكسو بمبالغ سخية جدًا، وأرخص الأموال لاقتناء أنفس المخطوطات العربية، كمخطوطة “أصول الخيل العربية” المنسوبة لعباس باشا.

كان الملك سلمان -أطال الله عمره- المثقف الدافع لإصدار “نظام حماية التراث المخطوط في المملكة العربية السعودية” عام ٢٠٠١م، والذي نتج عنه تصوير عشرات الآلاف من المخطوطات العامة والخاصة. وزوّد سموه -حينها- “دارة الملك عبدالعزيز” بآلالاف المخطوطات (٧٠٣٧) بعد ما كانت بضع عشرات. وعرفانًا بفضل والده في حفظ المخطوط العربي والعناية به، أصدر أمره الكريم عام ٢٠١٦م بإنشاء “مجمع الملك عبدالعزيز للمكتبات الوقفية” بالمدينة المنورة ليُضمَّ إليه ٣٤ مكتبة من أنفس مكتبات العالم الإسلامي المليئة بنفائس المخطوطات (٢٥ ألف)، وكان الملك عبدالعزيز وراء حفظ تراث مكة المكرمة المخطوط بموافقته الكريمة على إنشاء “مكتبة مكة المكرمة” عام ١٩٥١م والتي تضم زهاء ٢٤٠٠ مخطوط.

وليست هذه العناية واللفتة الكريمة مستغربة من الملك سلمان، فهو مثقف وقارئ نهم قبل أن يكون أميرًا وملكًا، ومكتبته الخاصة نموذج رفيع للمكتبات الخاصة في العالم العربي، جمعًا وانتقاءً على مستوى الكتب والمطبوعات النادرة، حيث تزيد مقتنياتها على ٢٨ ألف عنوان.
ومن حسن الوفاء ما قام به مجمعه الملكي اللغوي “مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية” بتكريم “معهد المخطوطات العربية” بجائزة دولية نظير خدمة المعهد للتراث العربي المخطوط جمعًا وحفظًا وترميماً وإتاحةً ونشرًا يوم الأحد (٢٠٢٤/١١/٢٤م)، كأول جائزة يحصل عليها المعهد خليجيًا.

اليوم، وفي ظل رؤية سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، تستهدف هيئة المكتبات بوزارة الثقافة إنشاء ١٥٣ مكتبة حتى عام ٢٠٣٠م، وتفتتح معرضها الأول للمخطوطات السعودية (ديسمبر ٢٠٢٤م) ليستكشف الزائرون جزءًا يسيرًا من روائع المخطوطات السعودية عبر القرون بمعرضها الحالي في الدرعية (عاصمة الدولة السعودية الأولى، وعاصمة الثقافة العربية ٢٠٣٠م).
ختامًا، ومع قرب مرور نحو ٣٠٠ عام من التأسيس السعودي، تفخر المملكة بحفظها لنحو ٣٠٠ ألف مخطوط أصلي ومصور تصويرًا شرعيًا كثاني أضخم دولة عربية تملك رصيدًا أصليًا من المخطوطات العربية والإسلامية، والأسرع نموًا في جمعها للتراث المخطوط.