كلمة معالي مدير عام المنظمة بمناسبة يوم المخطوط العربي 2014

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علىٰ محمد وعلىٰ آله وصحبه أجمعين،

أيها الحضور الكرام

أصحاب الفضيلة العلماء الأجلاء

أصحاب السعادة السفراء والمستشارين الثقافيين

رجال الأعمال والصحافة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

تتجدد اليوم سعادتي التي شعرت بها العام الماضي ونحن نحتفل بـ «المخطوط العربي» لأول مرة، ويداخلني وأنا ألتقيكم الكثير من الرضا بعد أن وفينا بالعهد بأن يكون لهذا المخطوط يوم سنوي اخترنا له الرابع من إبريل، وهو اليوم الذي أُنشئ فيه معهد المخطوطات العربية عام ستة وأربعين وألف وتسعمائة.

باحتفالنا اليوم يترسخ ويصبح للمخطوط العربي يوم، مثله مثل اللغة العربية، وإنما ضربت المثل باليوم العربيّ للعربيّة الذي يوافق الأول من مارس؛ لأن بينهما صلة وثيقة، فالعلاقة بين العربية والمخطوط، الذي هو حامل اللغة، علاقة جدلية حميمة.

إن علوم العربية جميعًا حملها إلينا هذا المخطوط الذي وصفته في كلمتي العام الماضي بالكائن التاريخي «الأسطوري» الذي استطاع – علىٰ الرغم من سطوة عوامل البلىٰ واعتداءات الإنسان وظلمه – أن يقهر الزمن، ويصل إلينا بجسده وروحه، مختزنًا حمولة معرفية وثقافية وعلمية وفنية وحضارية متميزة. وإن المخطوط نفسه ما كان ليوجد أصلًا لولا تلك اللغة الشريفة، علىٰ حد وصف ابن جني. هي لغة شريفة، ليس لأنها لغة القرآن فحسب، ولكن لأنها – أيضًا – قمينة بأن تعيش وتتناقلها الأجيال، نظرًا لقدراتها غير المحدودة علىٰ التعبير والتجدد والاستيعاب لحاجات أصحابها وتواصلهم الحياتي والعلمي مع أنفسهم ومع الآخرين ومع الكون المحيط بهم. بل إنها تتجاوز في شرفها إمكاناتها البنيوية وطاقاتها الكامنة علىٰ مستوىٰ التعبير والتواصل والتجدد إلىٰ ما هو أعلىٰ – أعني قدراتها التأثيرية علىٰ أصحابها، فهي لغة تملكُ بقيمها الروحية والحضارية المتراكمة قدرات سحرية علىٰ أن تعيد صياغة أصحابها، وإذا ما استخدمنا لسانها فإننا نستبدل بكلمة «تصوغهم» كلمة «تحدثهم» ! إنها لغة تتحدث أصحابها كما يتحدثونها، والرصيد التاريخي لهذه اللغة إنما هو في المخطوطات.

وبهذه المناسبة أود أن ألفتكم إلىٰ أن اختيار يوم سنوي وتخصيصه لـ«المخطوط العربي» ما كان نزوع غواية، ولا جموح رغبة في إضافة يوم احتفالي جديد، فالاحتفال -علىٰ مشروعيته – ليس هو الغرض، إنما الغرض الأساس قائم علىٰ الرؤية التي صدرنا عنها في أنه قد حان الوقت للانتقال بالتراث الذي يمثله المخطوط من قاعات الدرس المغلقة وصالونات الثقافة العاجية إلىٰ الفضاءات المفتوحة، والهبوط به من علياء النخبة ومحاوراتها ومجادلاتها وأسئلتها العلمية والفلسفية إلىٰ واقعية المثقف العام واهتماماته اليومية.

نحن اليوم أحوج ما نكون إلىٰ تراثنا العربي الإسلامي العريق علىٰ مستويين: مستوىٰ النخبة وقضاياها، ومستوىٰ الناس بمختلف شرائحهم العمرية، وتنوع ثقافاتهم، وتباين منازعهم، بل لعلنا إلىٰ هذا المستوىٰ الأخير أشد احتياجًا.

إن التراث بما يختزنه من قدرات وطاقات سحرية قادر علىٰ صياغة البنيان النفسي من جديد وإعادة التوازن له بعد أن تعرَّض لهزات عنيفة بسبب تأثير الأوضاع الحضارية التي آل إليها أمر الأمة، لأسباب ليس هذا موضع الوقوف عندها، ولا شك أن إصلاح هذا البنيان أمر أساس في ذاته من جهة، وفي تحقيق الاستثمار العلمي الذي يمكن أن تقوم به النخبة من جهة أخرىٰ.

يعود يوم المخطوط العربي الذي يوافق كما تعرفون الرابع من إبريل هذا العام في ظل أوضاع استثنائية، نرىٰ تجلياتها في ثورات الربيع العربي، وربما إرهاصات ثورات، أو علىٰ الأقل ألوان من الحراك، سواء علىٰ المستوىٰ الإقليمي أو العالمي، ولا ندري إلامَ تؤول إليه، ولا إلىٰ أين ستدفع بنا؟

أيها الحضور الكرام

يبدو أنني تحدثت عن يوم المخطوط العربي حديث النخبة، وما كنت أريد أن أقع في هذا الشَّرَك، فاليوم احتفالي، وفي الاحتفال ينبغي أن ننأىٰ عن إثارة الهموم والنظر البعيد، ونتجه – بل نقصد قصدًا – إلىٰ المسائل القريبة، والقريب هو الخطوة الضرورية باتجاه الوصول إلىٰ البعيد.

تتنوع نشاطات “اليوم” بين الورشات والمسابقات والمعارض والعروض، وتستدعي الموضوعات الآسرة، موضوعات: الأسطرلاب والفلك والنجوم، ثمَّ إن دوائر الاحتفال لا تقتصر- كما كانت في العام الماضي – علىٰ المعهد وبيت السِّناري التابع لمكتبة الإسكندرية، بل تشمل – بفضل حراك المعهد وحماسه شركاء كثيرين – في البلد المضيف (مصر):

في القاهرة: الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية، وبيت السِّناري، ومركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي التابعين لمكتبة الإسكندرية، والمكتبة المركزية في جامعة القاهرة، وساقية الصاوي.

وفي الإسكندرية: متحف المخطوطات بمكتبة الإسكندرية.

وما وقف الأمر عند البلد المضيف، فقد كتب المعهد إلىٰ كل البلاد العربية، وعلمنا أن جهات عدة في كل من: طرابلس ليبيا، والرياض بالمملكة العربية السعودية ستقيم نشاطات في إطار اليوم.

أيها الإخوة الكرام

دعوني أقول لكم: إن التراث والمخطوط اليوم ما عاد قضية ماضية، ولا تاريخ علم، بل هو قضية حاضر ومستقبل، وأساس علم جديد، فمن المعروف أن أية نهضة علمية لا تقوم إلا بثلاثة شروط: مستند تاريخي، ورؤية أو فلسفة مميزة، وبنية (مجتمع) مناسبة، والشرطان الأولان لا يقومان بدون التراث.

أيها السيدات والسادة

اسمحوا لي بهذه المناسبة أن أعبِّر عن تقديري لمعهد المخطوطات العربية، هذا المعهد العريق الذي أعتزُّ به كثيرًا، بل أنتمي إليه، فقد ترددت عليه، وأفدت من مخطوطاته كثيرًا أيام الطلب عندما كنت أُلاحق أبا تمام والبحتري والآمدي والمصادر الشعرية والنقدية العربية، وأكثر من ذلك أني صرت مديرًا له، لكنها إدارة اليوم الواحد، وتلك حكاية أخرىٰ من حكايات العمل في التراث، هذه الصناعة الثقافية الثقيلة التي تعاني من سوء الإدارة. يومها عرضت عوارض حالت دون أن أردَّ له جميلًا كان في عنقي، لكن الله تعالىٰ أراد أن أحمل أمانة أكبر هي أمانة «المنظمة» التي يتبعها المعهد، وكأن الله تعالىٰ أراد أن يحملني المسؤولية من جديد.