قاعدة في التحقيق: (لا بد للمحقق أن يَفْهم ما يقرأ، وأن يُفهم من يقرأ) د. إبراهيم السناري       

النشر الإلكتروني باعتماد المعهد

(تراثنا)

turathuna@malecso.org

مقالات في التحقيق (1)

قاعدة في التحقيق

(لا بد للمحقق أن يَفْهم ما يقرأ، وأن يُفهم من يقرأ)

د. إبراهيم السناري

دكتوراه – كلية الآداب جامعة سوهاج

 

 

الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى، لاسيما حبيبه المصطفى وآله وصحبه أجمعين، أما بعد …

فقد كنتُ أعتقد أنَّ الكتابةَ في فنِّ التحقيق قاصرةٌ على فحولِه مثل شيخ شيوخنا الأستاذ عبد السلام محمد هارون (رحمه الله)، لكنَّ من سننِ هذه الحياةِ أن يتعلم الإنسانُ ممَّن هو أكبرُ منه سنًّا أو أكثرُ علمًا وخبرةً، ثم يأتي زمانٌ يحتاج إليه مَن هو أصغرُ سنًّا أو أقلُّ علمًا وخبرة.

والسببُ الذي دفعني إلى كتابة هذه المقالة أنَّ طالبًا جاءني بكتاب مخطوط يعمل على تحقيقه كبحث لنيل درجة الماجستير، وقد جاءني أيضًا بورق مطبوع يزعم أنَّه نسخ فيه هذه المخطوطة، فما استطعت أن أفهم شيئًا مما كتب، فقلتُ: أرني المخطوطة فوجدتها أوضح من نسخته، وتذكرتُ في نفسي ما نقله القرافي في نفائس الأصول قال: “رأيت في شرحِ المقاماتِ أَّن بعضَ الفضلاءِ بعث بناسخٍ إلى صديقٍ له، ومعه رقعةٌ فيها مكتوبٌ: “قد بعثتُ إليك بناسخ، وأعرفك بصفته: أنه إن نسخ مسخ([1])، وإن نقط غلط، وإن أشكل([2]) أشكل.” ، فكنتُ أظنُّ ذلك من مبالغات الأدباء، لكني أزلت عنه الرهبة، وقلتُ له: كثيرٌ ممَّن دخل هذا المجال عانى في بداية الطريق؛ ؛ لأنَّ التعامل مع المخطوطات يحتاج إلى صبرٍ وعلم ودربة.

ثم جاءتني فكرة هذه المقالة فقلتُ له:

من قواعد التحقيق: (أنْ تَفْهمَ ما تقرأُ، وأنْ تُفهِمَ مَن يقرأُ)

لذلك إذا كان في أصل الكتاب ما يشكل، ولا يستطيع المحقق معرفة وجه الصواب فيه، لا ينبغي للمحقق أن يستحيي من أن يقول: هكذا في الأصل، ولم أستطع أن أتبيَّن صوابَه([3]).

فالجزء الأول من القاعدة يعني أن (تفهم ما تقرأ) من المخطوطة، ولن تفهمه حقًّا على نحو ما أراد كاتبه إلا بعِلم، هذا العلم قسمان:

الأول- العلم بالكاتب، فتعلم ما استطعت عن حياته ومشايخه والعلوم التي نبغ فيها؛ لأنَّ العالم إذا برَّز في علمٍ أكثر من التصنيف فيه، أو استعمله في غيره من العلوم، فتجد المفسر الفقيه يكثر في تفسيره من الخوض في مسائل الفقه، والمفسر النحوي لا يدع آية إلا ذكر وجوهَ إعرابها وتخريجَ أقوالِ السلف على هذه الوجوه.

وكذلك المعرفة بمذهب المصنف وعقيدته؛ لأنك قد ترجح قراءة نسخة على أخرى بمعرفة عقيدته، وقد وجدت ذلك في تحقيق الإنصاف مختصر الانتصاف من الكشاف، لعلم الدين العراقي (ت: 704 هـ)([4])، فقد نقل العلم العراقي عن الزمخشري قوله: ” ومعناها أنَّ الذين تكرر منهم الارتداد، وعُهِدَ منهم ازديادُ الكفر= يبعد منهم أن يُحدِثوا ما يستحقون به المغفرة، أو يستوجبون به اللطفَ مِن إيمانٍ مرضيٍ؛ لأنَّ قلوبهم (ضَرِيَتْ)([5]) بالكفر ومَرَنَتْ على الردة، فالإيمان أهون شيء عليهم، وليس معناها أنهم لو أخلصوا توبتهم وإيمانهم لم يُقبَل؛ لأنَّ ذلك مقبول، وهو بذل الطاقة، وهكذا ترى الفاسق الذي يتوب ثُم يرجع ثُم يتوب ثُم يرجع، لا يكاد يُرجى منه الثبات، والغالب موته على شرِّ حال.([6])

في هذه الفقرة قرأ محقق الكشاف كلمة (ضريت) (ضربت) بالباء الموحدة، وكذلك جاءت في أكثر نسخ الإنصاف، فرجحت ما جاء في إحدى النسخ، وأثبته في أصل الكتاب، وبرهاني على ذلك أن [ضربت] تثبت القدر، وهو ينفي القدر؛ لذلك اختار الزمخشري هذا اللفظ.

الثاني- العلم بالكتاب، فتطلبُ معرفةَ العِلْمِ الرئيس الذي يتناوله هذا الكتاب، وهل لهذا الكتاب شجرة عائلية يتفرع منها، كأن يكون شرحًا لمتن مختصر، أو اختصارًا لكتاب مطول، أو هو من كتب الردود على مقالات المخالفين.

وأهم شيء في العلم بالكتاب اتقان المحقق لاصطلاح العلم الذي يحقق كتابًا من كتبه، وكذلك معرفة جيدة بأعلام هذا العلم، وهذان الأمران يحدث فيهما التصحيف كثيرًا، وقد وجدتُ ذلك في تحقيق الإنصاف مختصر الانتصاف أيضًا، فقد نقل العلم العراقي عن ابن المنير قوله: ” في هذه الآية نكتتان: إحداهما: أنَّ النكرة في سياق الشرط تعمُّ، وفيها اضطرابٌ للأصوليين، وإمام الحرمين يختار العمومَ، واستدرك على الأئمةِ قولهم: النكرة في سياق الإثبات تخصُّ؛ فإنَّ الشرطَ تعمُّ فيه، وهو إثباتٌ، وردَّ عليه الأبياريُّ([7]) شارح كتابه ردًّا عنيفًا، وهذه الآية حجةٌ للإمام” فوجدت في الانتصاف المطبوع مع الكشاف (الأبياري) مصحفًا إلى (الأنباري)، فالمعرفة بالبرهان لإمام الحرمين وبشروحه ترشدك إلى الصواب في هذا التصحيف.

أمَّا الجزء الآخر من القاعدة وهو (أن تُفهِمَ مَن يَقرأ)، ولهذا يجب على المحقق أن يضبط المشكل من الكلام، ويشرح الغريب من الألفاظ، وينبه على ركني الجملة إذا طالت حتى لا يضيع المعنى، وقد كان الأستاذ محمود شاكر يهتم في كتبه بهذا، واختار العلامة (=) للتنبيه على الركن الثاني في الجملة الذي طال.

ومن أهم الأمور التي تساعد القارئ على الفهم علامات الترقيم؛ ولهذا لا بدَّ للمحقق أن يهتم بها اهتمامًا كبيرًا، وأضرب لك مثالًا وقع معي في رسالتي للدكتوراه التي جمعت فيها تفسير الشهاب القرافي (ت:684 ه)، فقد نقلتُ في بحثي موضعًا من نفائس الأصول – عند تفسير قوله تعالى: ﴿اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا﴾ [سورة الطور، آية 16] – فيه: ” قلنا: المستعمل هاهنا في التسوية هو المجموع المركب من صيغتين: من الأمر مع صيغته، أو فهذا المجموع هو المستعمل في التسوية، فلا يصدق عليه أن المستعمل هو صيغة الأمر من حيث صيغة الأمر”([8]). فرجحت في البحث أن تكون العبارة هكذا: ” المستعمل هاهنا في التسوية هو المجموع المركب من صيغتين: من الأمر، مع صيغة (أو)؛ فهذا المجموع هو المستعمل في التسوية؛ فلا يصدق عليه أن المستعمل هو صيغة الأمر من حيث صيغة الأمر “، فستجد أني هاهنا عَدَلتُ عن لفظة [صيغته] إلى [صيغة]، مع تغيير علامات الترقيم التي أظهرتُ بها الصيغةَ الثانية التي يقصدها القرافي، وهي حرف العطف (أو)، وله معانٍ، منها التخيير([9])، وستجد عبارة المحقق [من الأمر مع صيغته] لا معنى لها، والعلاماتُ التي وضعها المحقق مضللةٌ للفهم.

 

الخاتمة:

في النهاية أذكِّر أن هذه القاعدةَ في التحقيقِ من الضروري أن ينتبه لها صغارُ الباحثين؛ لأني وقفت على مواضع -في رسائل علمية- يجزم القارئ لها أن المحقق ما فهمها، فيكون المحقق المزعوم قد هدم قاعدة التحقيق؛ لأن الذي لا يفهم ما يقرأ لن يستطيع أن يُفهِمَ غيرَه، إلا إنْ أحسنَ المحققُ وصفَ ما في النسخِ بدقة وأمانة، فربما يضع في الحاشية ما تصح به العبارةُ لمَن يعقلها.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

***

([1]) وقد فسر القرافي معنى المسخ هنا بقوله: ” في شرح المقامات:  (نسخ): إذا نقل اللفظ والمعنى، و (سلخ) إذا نقل المعنى دون اللفظ، و(مسخ) إذا افسد اللفظ والمعنى. ” . يراجع: نفائس الأصول في شرح المحصول، لأبي العباس أحمد ابن إدريس القرافي، تح الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز – الرياض، ط 1 ، 1416 ه/ 1995 م (6/2502).

([2]) هذا جناس تام، فـ(أشكل) الأولى من الإعراب أو إزالة الإشكال، والثانية من الالتباس، قال في المصباح المنير: ( شَكَلْتُ ) الكتابَ ( شَكْلًا ) أعلمتُه بعلاماتِ الإعرابِ، و( أَشْكَلْتُهُ ) بالألف: لغة، و( أَشْكَلَ الأَمْرُ ) بالألف: التبس. يراجع: القاموس المحيط ، لمجد الدين الفيروزآبادي ، إشراف محمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة ، ط 8 ، 1426 ه / 2005 م (ص 1019) مادة (شكل) والمصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي، تح د. عبد العظيم الشناوي، دار المعارف، ط 2 (ص 321).

([3]) هذا مثال، يراجع ما كتبه محدث مصر الشيخ أحمد شاكر في حاشية تحقيقه لجامع البيان في تأويل القرآن، لأبي جعفر الطبري، تح أحمد محمد شاكر، مكتبة ابن تيمية – القاهرة (4/437).

[4] ) هي رسالتي لنيل درجة الماجستير في الآداب، قسم الدراسات الإسلامية بجامعة سوهاج.

[5]) في المعجم الوسيط: ضَرِي ضَرًا وضَراء وضَراوة: اشتد ، و- به أو عليه : لزمه أو أولع فيه واعتاده، وهو مقارب لمعنى مرنت، وكذلك أثبتها الطيبي في حاشيته. يراجع: فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب ، لشرف الدين الطيبي، مجموعة رسائل علمية من كلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ( 4 / 242 )، المعجم الوسيط ، مادة ( ض ر ي ) و مادة ( م ر ن ).

[6] ) يراجع: الكشاف عن حقائق غوامض التزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، لأبي القاسم الزمخشري، دار الكتب العلمية – بيروت ، ط 5 ، 2009 م، تح محمد عبد السلام شاهين (1/564 ، 565).

[7] ) هو علي بن إسماعيل بن علي، شمسُ الدين، شهرته أبو الحسن الأبياري نسبة إلى ( أبيار ) قرية في شمال مصر، وكان شهاب الدين بن عقيل المصري الشافعي يقدِّمه على الرازي في الأصول، له شرح البرهان للجويني، وسفينة النجاة ( ت : 616 هـ ). يراجع: الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب ، للقاضي إبراهيم بن فرحون ، تح د. محمد الأحمدي أبو النور، دار التراث – القاهرة ( ص 306 ) حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة ، لجلال الدين السيوطي ، تح محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية ، ط 1 ، 1387 هـ / 1967 م (1/454 ، 455) وشجرة النور الزكية في طبقات المالكية ، للشيخ محمد بن محمد مخلوف ، دار الكتاب العربي – بيروت (1/166) والفتح المبين في طبقات الأصوليين ، للشيخ عبد الله مصطفى المراغي ، نشره محمد علي عثمان ، 1366 ه / 1947 م (2/52).

([8]) يراجع : نفائس الأصول ( 3 / 1230 ).

([9]) يراجع : مغني اللبيب عن كتب الأعاريب ، لابن هشام الأنصاري ، تحقيق د . مازن المبارك وآخرين، دار الفكر – بيروت ، ط 1 ، 1425 هـ ، 2005 م ( ص 67 ) .